ظاهرة مقتدى الصدر و"جيش المهدي"

و

التحدّيات الكبيرة ....  والآفاق المحتملة      

     بقلم : محمود جديد

 

   _  إنّ التاريخ لا يرحم أحدا ، وأحكامه تتبلور وتعلن عن نفسها بوضوح في المنعطفات الحاسمة من حياة الشعوب ، وتعتبر الحقبة التي تتعرض فيها لاحتلال أجنبي من أهمّها ، وأكثرها انعكاسا وتأثيرا على ولادة قوى وأحزاب واتجاهات تساهم بشكل فعّال في إعادة صياغة المجتمعات ورسم مسارات حركتها وتطوّرها سلبا أم إيجابا ، وفي الوقت نفسه يمكن أن تشكّل تلك الحقبة عملية غربلة وفرز بين مكوّنات المجتمع وتنظيماته ، وحتى أفراده ... وضمن هذا التصوّر نجد أن الاحتلال الأمريكي للعراق الشقيق ، ومخاطره الكبيرة خلق أجواء لتفاعلات داخلية مناهضة له نجم عنها تيارات وقوى مضادّة لوجوده ، وكانت ظاهرة مقتدى الصدر و"جيش المهدي "إحداها ، وفي الوقت ذاته كشفت وعرّت قوى وأطراف سياسية أخرى من اتجاهات مختلفة مثل القوى التي شاركت في "مجلس الحكم " وتبعيّة بعضها التي وصلت أحيانا لدرجة العمالة ...

   -  لقد شكّل الموقف المبدئي للسيّد المرحوم : محمد صادق الصدر قبل اغتياله عام 1999، وتعلّقه بعراقه وعروبته وإسلامه ، وبحمله هموم الفقراء والكادحين البذور الحقيقية لولادة ظاهرة مقتدى الصدر و"جيش المهدي "وقد غزّى هذه الظاهرة ونمّاها التربة الخصبة للشعب العراقي الأبيّ  ، ومعاناته  والمخاطر التي تحيق به نتيجة الاحتلال ،وما ينجم عن هذا كلّه من مشاعر وطنية عفوية صادقة في نفوس الشباب العراقي ومن ضمنهم مقتدى الصدر الذي يحمل مشاعر  والده الوطنية الطيبة والصادقة ، وما ألقته الظروف على كاهله من أحمال ومسؤوليات ثقيلة موروثة ، أو مفروضة ، إضافة إلى الانعكاسات الايجابية لنجاح تجربة المقاومة اللبنانية في تحرير الأرض ، وصمود وكفاح الشعب الفلسطيني وفصائله المناضلة ... وبالرغم من قصر عمر ظاهرته فإنّها استطاعت أن تثبت وجودها بفعّاليّة  ، وتحدّد مسارها الصحيح المناهض للاحتلال والمترابط عاطفيا مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، بالرغم من الأخطاء السياسية وبعض "الخرجات " والتصريحات التي كانت تصدر عن /مقتدى / أو بعض معاونيه خلال هذا العام ، والتي تعتبر طبيعية إذا أخذنا بعين الاعتبار نقص خبرته وصغر سنّه ، ومعاناته الشخصية في ظل نظام /صدام حسين/ مادام الاتجاه العام للظاهرة صحيحا ، لأنّ الحياة واستمرار الكفاح سيصقلها ، وينقيها من الكثير من الشوائب ......

   - ورث مقتدى الصدر شبكة واسعة من المكاتب والمدارس الدينية ، والتفّ حوله مجموعة من رجال الدين الشباب المنتمين " للحوزة الناطقة" التي أسّسها والده ، والذين شكّلوا بعد سقوط النظام الهيئة التي تتولّى إدارة وقيادة تيار"الصدر الثاني " و"جيش المهدي " ومن أبرزهم /قيس الخزعلي الناطق الرسمي باسم هذا الجيش ،والشيخ جابر الخفاجي قاضي المحكمة الشرعية " للحوزة الناطقة " ، وثلاثة آخرين تمّ اعتقالهم أو اختطافهم من قبل القوّات الأمريكية وهم : الشيخ مصطفى اليعقوبي ، والسيد محمد الطباطبائي ، والسيد رياض النوري ... وعلى كل حال فقد أصبحت هذه القيادة بدون غطاء مرجعي بعد تنصّل السيّد : كاظم الحائري المقيم في /قم/ من مسؤوليته عنهم خارج الأطر الشرعية التقليدية، ( مع العلم أنّ تحسّنا ما طرأ على موقفه مؤخّرا) ، والذي كان السيد محمد صادق الصدر قد أوصى باتّباعه ... كما أنّ السيد السيستاني تنصّل أيضا من أيّة علاقة له بهم،ولكن هنالك بعض المراجع الذين يتقاطعون ويتعاطفون معه في توجّهه المقاوم ، ومن أبرزهم الإمام الشيخ محمد مهدي  الخالصي المقيم في بغداد ، والشيخ جواد الخالصي، والسيد أحمد البغدادي المقيم في النجف ,,,  أمّا القاعدة الشعبية لمقتدى الصدر و"جيش المهدي " فتتركّز في أوساط الشرائح الفقيرة الوافدة الى ممدن النجف وكربلاء والكوفة من الجنوب وخاصّة من الناصرية والعمارة ، بالإضافة الى الشباب العاطل عن العمل من أبناء العشائر المجاورة لهذه المدن الثلاث ، أمّا في بغداد فيتمتّع الصدر بشعبية واسعة في مدينتي الثورة(الصدر) والشعلة واللتين تشكّلتا من أبناء العشائر الفقيرة النازحة إلى بغداد ومن أقصى الجنوب ، وهما تعادلان نصف تعداد سكان العاصمة بغداد ... أمّا في داخل مدينتي النجف وكربلاء ، وفي حيّ الكاظمية والكرّادة في بغداد فإنّ شعبية الصدر تضعف ، لأنّ سكان هذه المدن والأحياء مستقرّون فيها منذ زمن طويل ، ويتمتّعون بوضع اجتماعي وثقافي واقتصادي أفضل ، وتشدّهم مصالحهم الطبقية للاصطفاف مع التيارات الشيعية التي تعتمد النهج السياسي بشكل أساسي لاسترجاع السيادة العراقية من المحتلّ الأمريكي ...

-- " جيش المهدي ": في منتصف العام الماضي أعلن مقتدى الصدر عن تشكيل "جيش المهدي " كميليشيا"غير مسلّحة ، وقد أسرع آلاف الشباب العراقي العاطل عن العمل بالانضمام إليه ، لأنّ الثقة بآل الصدر ، والتعاطف معهم نتيجة المآسي التي حلّت بهم ، والاحترام الخاص الذي يشعرون به تجاههم ، وجاذبية شعار مقاومة المحتّل وتحرير العراق ومشروعيّته وصوابيّته ، والتزام قيادة شابّة مثلهم به يتلمّسون فيها الصدق والشجاعة في الموقف جعلهم ينضّمون إليه بحماسة فائقة ، حيث يشكّل  بالنسبة لهم إطارا وطنيّا ودينيّا وقوميّا للتعبير عن مشاعرهم الفيّاضة ، وتفريغ شحنات حماسهم المتدفّق ، ومن هنا أصبح أكثر التنظيمات حضورا في الشارع العراقي ، وأكثرها سرعة في التفاعل مع الأحداث ، وفي الاستجابة لردود الأفعال تجاهها وإثبات الوجود ...

  -- التوجّهات السياسية لظاهرة الصدر الثالث و"جيش المهدي " :ليست هذه الظاهرة حزبا سياسيا له منهاجه السياسي والتنظيمي الواضح ، بل عبارة عن تيّار شعبي واسع ، وفي الوقت نفسه فإنّ مقتدى الصدر ليس وحيدا في قيادة هذا التيّار ، بل توجد الى جانبه مجموعة من الشيوخ الشباب الذين يشاركونه تحديد الخطوط العريضة والمواقف السياسية ، والتكتيكات الميدانية ،... وعلى كل حال ، ومن خلال متابعة ما صدر عن الصدر من تصريحات وبيانات نستطيع التعرّف على بعض توجّهاته السياسية ، وإليكم فيما يلي قسما منها :"وجوب رحيل المحتلّ وفق سقف زمني مدعم بضمانات دولية ... ونحن لن نقبل العيش بين حفر الاحتلال ، وسندفع كل ما يوجبه علينا واجبنا الديني والوطني من أجل نيل مطالبنا بكل ما نقدر عليه ... ، وأعتقد أنّ كل حرّ في العالم يؤمن أن لا أغلى من الاستقلال والتحرّر من الاحتلال ... وإنّ من يرضى بالاحتلال فهو ليس بعراقي ، ولا يمكن أن نسمع لغير العراقيين قولا ... وقد قرّرت أن أتّخذ طريق أجدادي وفق عقيدة الإسلام الأبيّ الحرّ الذي لا يقبل بالضيم والظلم والاستكبار والاستعمار ، وطّنت نفسي ومعي العديد من العراقيين أنّنا علينا أن نفكّر بديننا وشعبنا أوّلا ،ومن ثمّ نفكّر بمصرنا ..." ( السفير اللبنانية -17/5/2004 )  وفي بيان له قال : " إنّنا عازمون على المضي بمطالبنا العادلة حتى تتحقّق بجلاء جميع قوّات الاحتلال الكافر من أراضينا ،وتسليم السلطة الى مؤتمر وطني يشمل جميع القوى الشريفة ، والتي لم يثبت عمالتها لأمريكا واسرائيل ، وليس لنا بعد ذلك إلاّ تحقيق مطالبنا أو الشهادة في سبيل الله ... لقد عزمنا على مكافحة الاستعمار ومضادة الاحتلال حتى يأذن الله تعالى بهزيمته ،أو برحيله ،أو أن نهلك دونه .."

أمّا موقفه من التفاوض مع الأمريكيين فيحدّده مقتدى الصدر بما يلي : " إنّنا مع أي ّ نوع من أنواع المفاوضات مادامت جدّية ولا تتضمّن ما يخالف ثوابتنا من وجوب رحيل المحتلّ وفق سقف زمني مدعّم بضمانات دولية "

وعند تشكيل حكومة العلاّوي أعلن "براءته منها إلى  يوم الدين " ... ولكن يلاحظ مؤخّرا تعديلا ما على هذا الموقف والذي يجب رصده جيّدا في المستقبل .) قال الصدر في خطبة الجمعة بعد كتابة هذا المقال في خطبة الجمعة ألقاها عنه الشبخ : جابر الخفاجي :" أريد إعلام الجميع ، وبالخصوص من سلّطهم المحتّل على رقاب العباد ، أنّ أيّ مساس بمقاوم عراقي شريف سنّي أوشيعي ، مسلم أو غير مسلم ، يعتبر تعدّيا على الحوزة العلمية أولا ، وعلى كل القوانين الشرعية والدولية ." (،   ... وعلى الصعيد الوطني فله علاقات طيّبة مع هيئة علماء المسلمين ،كما يطالب بنبذ الطائفية ، ويدعو الى الوحدة الوطنية ، وقد عبّر قولا وعملا عن تضامنه مع مدينة الفلوجة البطلة أثناء معركتها مع قوّات الاحتلال ... كما أرسل 2000مقاتل من جيش المهدي لدعم التركمان والعرب في كركوك ضدّ الأكراد ...

    --موقف مقتدى الصدر من المرجعيات : يصنّف الصدر المرجعيات بثلاثة أصناف، الأولى : " مرجعيات لاتحبّذ التدخّل بالسياسة ،وبالتالي فإن ليس لها من علاقة بالاقتصاد والاجتماع والاحتلال والتحرير ، وكل ما يشتبك مع السياسة بوشيجة، لذا فإنّ هذا الصنف من المرجعيات لا يمكن وصف موقفنا منها بالرضا أوعدمه ، أمّا الصنف الثاني ممّن تصدّى للعمل السياسي ، فكيف يمكنني وصف من تورّط مع الأمريكان بعلاقات خاصّة بل تحريضية على أبناء جلدته ،بأنّه مرجعية دينية ، وهناك صنف ثالث يمكن وصف موقفه بأنّه وطني مشرّف ،لكن ليس بالضرورة وفق رؤيته أن يشاركنا كل ما نفعل " ... وهنا ينظر الى المرجع الأعلى السيد علي السيسناتي بإنّه من الصنف الثالث ، غير أنّ إرث الماضي من تباين في وجهات النظر بين المرجعية الناطقة وبين المرجعية الصامته ، وطبيعة تفكير رجل على أبواب الثمانين من العمر كالسيستاني والذي يلتفّ حوله شبكة واسعة من المستشارين المؤهلين في كافّة الاختصاصات، لابدّ أن يخلق تباينا ما  مع ظاهرة الصدر ذي الثلاثين عاما ، غير أنّ حماس مقتدى ومن يلتفّ حوله من الشباب العراقي الكادح من جهة ،ووجود الاحتلال وممارساته وجرائمه وإرهابه اليومي من جهة أخرى ، جعلته مع أتباعه ظاهرة تغلي دون الوصول إلى درجة الانفجار بوجهه بشكل كامل ، فاكتفوا بالمظاهرات الجماهيرية ،والاعتصامات الشعبية تعبيرا عن الاحتجاج منتظرين الفتوى العامّة بالجهاد من لمرجعية العليا ، وذلك حتى أوائل نيسان /أفريل/ 2004 .

موقف إدارة الاحتلال من ظاهرة الصدر حتى تشكيل حكومة العلاّوي:يبدو أنّ إدارة الاحتلال كانت تتحاشى تفجّر الأوضاع في الجنوب قبل أن تحاول تصفية الحساب مع المقاومة في الوسط ، وكانت تستمع الى"نصائح" أتباعها ،وعملائها في / مجلس الحكم /في هذا الاتجاه ، وضمن هذا الأفق سكتت عن تشكّل "جيش المهدي "و "شغبه" ،ريثما يحين الوقت المناسب ،غير أنّ تصعيد نشاطه ،والاعتصام داخل شوارع بغداد بأعداد غفيرة ، والإعلان الصريح من قبل مقتدى الصدر بأنّه يعتبر نفسه و"جيش المهدي " امتدادا لحماس وحزب الله في العراق ، والذي ترى إدارة الاحتلال هذا الإعلان تجاوزا للخطوط الحمر ...عندئذ نفّذت مجموعة من الإجراءات منها: إغلاق جريدة الحوزة الناطقة في بغداد ، وفتح ملفّ مقتل / عبد المجيد الخوئي / باعتقال الشيخ مصطفى اليعقوبي أبرز معاوني الصدر ، وتوجيه التهمة إلى مقتدى نفسه بالمشاركة واعتبرته رجلا خارجا عن القانون ليس أمامه سوى تسليم نفسه لقوّات الاحتلال لمحاكمته ، أو القتل ، كما صعّدت ممارساتها الإجرائية والإجرامية تجاه المتظاهرين من " جيش المهدي " وأنزلت بهم خسائر بالأرواح في مدينة الصدر عقب نزولهم إلى الشارع احتجاجا على إجراءاتها الجديدة ، وهنا وجد مقتدى فرصة سانحة للتنصّل من قيد المرجعية العليا المتعلّق بعدم إصدار فتوى للجهاد ، لأنّهم أصبحوا في معرض الدفاع عن النفس ، وفي هذه الحالة يسمح الحق الشرعي   بالتصدّي المسلّح لممارسات قوّات الاحتلال وتواجده ، فتفجّرت الأوضاع في معظم مدن الجنوب في شهر نيسان / أفريل/ الماضي ضد التواجد الأجنبي  ، وكانت الحرب النفسية ضدّ مقتدى وإرهابه بالتهديد والوعيد ،والردّ العسكري القاسي هي  الأسلحة التي لجأت اليها إدارة الاحتلال ،  لمعالجة تفجّر الأوضاع في الجنوب ، إذ يبدو أنّ تصلّب /بريمر / برفضه لكلّ المبادرات التي انطلقت لمعالجة الأزمة كان بسبب تقيّده بالأوامر التي وصلته من وزارة الدفاع الأمريكية حيال الوضع في النجف وكربلاء ، حيث كانت تتصوّر الجهات النافذة في / البانتغون / بأنّ الخسائر الكبيرة التي تحدث بين صفوف "جيش المهدي " ،وإرهاب مقتدى سيؤدّي إلى إخافته وإرباكه من جهة ، ويسهّل عملية القضاء على ظاهرته المسلّحة من جهة أخرى ...

انتفاضة جش المهدي ، وانعكاساتها : لقد أدّى وضوح صورة الصراع بين مقتدى ومؤيديه من جهة ، وقوّات الاحتلال من جهة ثانية الى ازدياد شعبية /الصدر/ ، واتّساع نضال المقاومة الشعبية الواسعة في معظم مدن الجنوب / كربلاء –النجف – الكوفة –الحلّة –الكوت –البصرة –الناصرية ...الخ/، إضافة إالى مدينتي الصدر والشعلة في بغداد ،وتحوّلت هذه الظاهرة الى شكل من أشكال الانتفاضة الجماهيريةالتي دحضت بالأرواح والدماء أيّة إمكانية لتجزئة نضال الشعب العراقي ، كما زادت من معنويات المناضلين في وسط العراق ، وعمّقت الوحدة الوطنية ، ورفعت معنويات العرب والمسلمين خارج العراق ، وفي الوقت نفسه خلطت الأوراق في الساحة "الشيعيّة " إذ أنّ الموقف الحازم لمقتدى الصدر ، وثباته على منطلقه الجهادي دون خوف أو وجل ، وصوابية اختياره الكفاحي  وصمت السيساني الطويل ، وتواطؤ " المجلس الأعلى للثورة الإسلامية"، وحزب الدعوة ، والمؤتمر الوطني مع إدارة الاحتلال ، كل هذا خلق استقطابا واسعا بين صفوف الجماهير الشعبية لصالح الصدر و"جيش المهدي " ، وعلى حسا ب تلك القوى الصامته أو المهادنة ، أو المشاركة في /مجلس الحكم / ، ممّا زاد من التحدّيات التي تواجهه ... كما أنّ تعزيز العلاقة بين هيئة علماء المسلمين ومقاومي الفلّوجة البطلة مع مقتدى الصدر و"جيش المهدي " ساعد على بلورة اتجاه عام وطني دعمه قطاع واسع من الأحزاب والتجمعات العراقية الوطنية والقومية واليسارية المعارضة لإدارة الاحتلال ، وقد عبّر عن نفسه بعقد " مؤتمر العراق التأسيسي" الذي ضمّ 500عراقي من مختلف أطياف ومكوّنات الشعب العراقي دون استثناء ، وتبنّى المشاركون " ميثاق التفاهم والعمل الوطني " وفي الوقت نفسه فقد عبّر بعض الرموز الدينية الشيعية عن مواقف شجاعة ومتقدّمة تكسر حاجز الفتوى المنتظرة ، فعلى سبيل المثال قال / آية الله أحمد الحسني البغدادي / ، وهو من علماء النجف : " جهاد أبنائنا واستشهادهم عمل مشروع في ظل الاحتلال ، وتبقى المقاومة أمضى سلاح لتحقيق إنهاء الاحتلال " ,أضاف :" صحيح ليس لنا جناح عسكري إنّما نؤيّد المقاومة بكل أشكالها فمن يدخل بالقوّة لايخرج إلاّ بالقوّة " ودعا البغدادي الى التوقّف عن استنكار دخول المحتّل الى المدن الشيعية المقدّسة وقال : " لماذا نستنكر ؟ فلنقاوم "  ... وأكّد الشيخ جواد الخالصي على هذا الموقف بقوله : " نؤيّد المقاومة المشروعة السياسية منها والعسكرية " .

  ومن الطبيعي  أن ترصد قوّات الاحتلال ما يجري من تفاعلات سريعة وعميقة على الساحة العراقية ، ولكنّها كانت تعالجها بمزيد من الممارسات الإجرامية ، وباللجوء الى استخدام القوّة الغاشمة ، والتدمير غير المبرّر بهدف سحق ظاهرة جيش المهدي قبل استفحالها ، وقد تجاوزت الخطوط الحمراء التي أعلنها السيستاني في النجف وكربلاء ، ووصولها الى قرب المراقد والمقامات المقدّسة ، وألحقت أضرارا فادحة بالأرواح والممتلكات ... وخلال احتدام الصراع انكشفت المواقف والتحالفات ، وخاصّة في ظل ضغط / بريمر/ على قادة الأحزا ب الشيعية المشاركة في / مجلس الحكم/للقيام بدور مساند لإدارة الاحتلال ، ولو بشكل غير مباشر على الأقلّ ، وهذا مافسّر خطب الشيخ " القبّنجي " في النجف وتهديداته بمسيرة ربع المليون ( التي أمر السيستاني بإلغائها) ، واستغلال مزاج البرجوازية في النجف وكربلاء المتضرّرة من توقّف السياحة الدينية التي تجلب لها مبالغ كبيرة جدّا ، وذلك من أجل المطالبة بإخراج "جيش المهدي " من المدينتين ، وبإبراز وجود عناصر كثيرة منه بأنّهم غرباء عنهما، وقد وصف مقتدى لصدر موقف هؤلاْ ء بقوله: " لايمكن إنكار أنّ البعض ممّن يجعل من تنامي دخله أعلى وأكبربكثير من كرامته وحريّته ، وينظر لنفسه من دون أن ينظر الى مستقبل أطفاله ، يستاء من كلّ ما ينغّص فراشه الوثير ، وعيشه المنعم وإن كان خسيسا تحت نير المحتّل ... وهؤلاء لايمثّّلون ضمير أي ّشعب حرّ...والحرية والاستقلال ومنع دخول المحتلّين مدن العراق بل خروجهم منه كليّا ،هو الذي سيصون كرامته وحريّته " ... وبالرغم من الخسائر الجسيمة التي لحقت ب"جيش المهدي" ، وتكالب الآخرين ضدّه بين صفوف الأحزاب والقوى الشيعية ، وعدم رضا /السيستاني / عن اندفاعه ،وأسلوب كفاحه، فإنّه بقي الأقوى جماهيريا ،تعبئة وحشدا ، وحيوية وحضورا سريعا في شوارع كربلاء والنجف والكوفة ،مع العلم أنّ الفضائيات العربية ،وبعض الأقلام المأجورة والصفراء حاولت تضخيم الخسائر التي لحقت بجيش المهدي ، وفي الوقت نفسه التعتيم على الخسائر الأمريكية من أجل إظهار كفاح "جيش المهدي " بالعبثية التي لاجدوى منها تجاه أقوى جيش في العالم ,,, وهنا لابدّ من الاعتراف الموضوعي  بأنّه ما من قوّة شعبية أو جيش نظامي يقدر أن يهزم القدرة العسكرية الأمريكية بالأسلوب القتالي الكلاسيكي ، وخاصّة في ظلّ وجود " عصابة المحافظين الجدد" الذين لايتورّعون عن استخدام أحدث وأفتك الأسلحة ، وحتى المحرّمة دوليّا من أجل درء هزيمتهم عسكريّا ، وعلى كل حال فإنّ صمود جيش المهدي في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال بعد مرور ثلاثة أشهر على تفجّر الصراع معها يعتبر فخرا له ، ولكل عراقي وعربي وحرّ شريف في ا لعالم ، ولكن لايعني يالضرورة الاستمرار في هذا الشكل من التصدّي المباشر الذي قد تسبّب خسائره الباهظة على المدى المتوسط والبعيد إلى نوع من الإحباط بين صفوف المقاتلين ، ويؤدّي إلى تشتّت هذه الظاهرة وتفكّكها ، وبالتالي لابدّ ّمن من إعادة تقييم أسلوب المجابهة المباشرة ومخاطرها ، والانتقال إالى حرب العصابات على رقعة واسعة بهدف اصطياد دوريّات العدو ، وقوافل إمداده وتموينه ، وتحرّك قياداته ، وعصابات المرتزقة التي استأجرها لمساعدته ...الخ بحيث تكون المبادرة التكتيكية بيد المقاوم ، وليست بيد الغازي ، وتجنّب المواجهة المباشرة إلاّ في حال الضرورة القصوى عند الدفاع عن النفس ....

تكتيك مقتدى الصدر ، وشروطه التفاوضية مع الأمريكان : لقد كان مقتدى الصدر يصرّح دائما يأنّه يضع نفسه تحت تصرّف المرجع الشيعي الأعلى وهومستعدّ وجاهز لتنفيذ تعليماته ، محاولا بهذا الموقف تنفيس ضغوط بعض الأطراف الشيعية عليه ، وتحميل المرجعية العليا مسؤولية أيّ قرار تتخذه بخصوص " جيش المهدي " وفي الوقت نفسه استخدم أسلوب المراوغة أحيانا مع الأمريكان لتضليلهم عن حقيقة موقفه السياسي والجهاد ي ، وقد وصف الكاتب العراقي /علي السعدي / بقوله : " فالسيد مقتدى يبدو وكأنّه يرفع مصحفا في يد وبندقية في الأخرى ، يطرح مفاوضة الأمريكان ليجسّ نبض توجّهاتهم بخصوصه من جهة ، وليظهر أنّه ليس داعية حرب أمام شعبه والعالم من جهة ثانية ،فإذا جرّهم إلى التفاوض حقّق بعض أهدافه ، وإذا استمرّوا يرفضهم التصعيدي سيبقى هو في موقع المناورة ودفعهم إلى مزيد من ارتكاب الأخطاء ."  أمّا موقف الصدر من المفاوضات مع الأمريكان فكان يكرّر دائما :" إنّنا مع أيّ نوع من أنواع المفاوضات ما دامت جدّية ، ولا تتضمّن ما يخالف ثوابتنا من وجوب رحيل المحتلّ وفق سقف زمني مدعم بضمانات دولية ..."

ازدياد الضغوط السياسية والميدانية على الصدر و"جيش المهدي" والتوصّل إلى هدنة : 

   إنّ ازدياد شعبية "جيش المهدي " بتصدّيه لقوّات الاحتلال ، وتوسّع ظاهرته ، والتكامل الكفاحي مع المقاومة في الوسط ، وما نجم عن ذلك من انعكاسات إيجابية على المزاج الجماهيري العراقي والعربي والإسلامي زادت قوّات الاحتلال إصرارا على محاولة وأد هذه الظاهرة بسرعة ، فحاولت وبشكل متدرّج تجاوز الخطوط الحمر في النجف وكربلاء ، وبدت أنّ نيّة الاحتلال الوصول إلى مقتدى نفسه ، وسحق "جيش المهدي " في العتبات المقدّسة ، ممّا زاد من إحساس الصدر بخطورة الموقف ، ودفعه إلى المهاجمة الواضحة لصمت المرجع الأعلى من خلال خطبته التي تليت في  مسجد الكوفة من قبل الشيخ جابر الخفاجي ، وقد جاء فبها : " يدخل العدوّ مرّة المدينة وأنت ساكت ، تضرب فيه قبّة أمير المؤمنين عليّ وأنت ساكت ، يدوسون على رؤوس شعبك ليس فقط بالأرجل وأنت ساكت ... فمتى تتكلّم ؟ ثمّ أضاف:" هل الخطوط الحمراء تعني مكتب المرجعيّة فقط ( وردت في خطبة آخر جمعة في شهر أيّار/ ماي /الماضي ...

ويبدو أنّ أطرافا عربية وإسلامية قد أدركت درجة وخطورة تفاقم الأمور والتطوّرات ، وربّما كان هنالك تنسيق بينها حول إجراء ضغوط معاكسة ومساندة لجيش المهدي ن ففي بيروت ألقى السيّد: حسن نصرالله خطابين ملتهبين ضد الاحتلال الأمريكي ، ودعا إلى مظاهرة الأكفان التي قدّرت بنصف مليون مشارك ، كما صرّح بعض المسؤولين الإيرانيين وعلى راسهم السيد: علي خامنئي ، ومستشار رئيس الجمهورية / السيد محتشمي /  بمواقف تنتقد الصمت ، وتطالب بوقف المجزرة في النجف ومحيطها ، كما خرجت مظاهرات في البحرين والباكستان ومصر تندّد بقوات الاحتلال ن وتدعم كفاح المقاومة العراقية ... وإزاء هذه التطورات والمواقف أوصل السيد : السيستاني وجهة نظره بأقنية عراقية إلى قيادة الاحتلال بأنّه يتعهّد بالتصدّ ي للقوات الأمريكية ا ذا شنّت هجوما شاملا على النجف ، وهذا ما أجبر قوّات الاحتلال على قبول الهدنة مع "جبش المهدي " وفق الأسس التالية :

  " 1 – إلغاء كل المظاهر المسلّحة وإشغال المباني الحكومية من الدوائر والمؤسسات الحكومية، وانسحاب جميع مقاتلي"جيش المهدي" من غير أبناء محافظة النجف من هذه المدينة ، والتوقّف عن ملاحقة الأشخاص ومحاكمتهم ، وتعهدّ بعدم العودة إلى ذلك .

   2 – افساح المجال للشرطة وكل القوّات الأمنية العراقية لممارسة مهماتها ،من أجل ضمان الأمن والنظام ، وعدم مزاحمتها في ذلك من أيّ كان .

  3 – انسحاب قوّات الاحتلال إلى قواعدها ، باستثناء وحدات صغيرة لحماية مقارّها ومبنى المحافظة ، مع استمرار تواصلها مع هذين المكانين .

  4 – إجراء مناقشات واسعة مع ممثّلي" البيت الشيعي " في شأن مستقبل " جيش المهدي " والملفّات القضائية ، وعدم اتّخاذ أيّ إجراء إلى ذلك الحين ."

الآفاق المحتملة لظاهرة الصدر و"جيش المهدي " :  إنّ الضغوط المتلاحقة والساخنة التي تعرّض لها الصدر و"جيش المهدي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة ، والتطوّرات الهامّة المتسارعة في الساحة العراقية وانعكاسات ذلك عربيا ودوليّا وصعود نجم مقتدى كلاعب مهمّ في العراق ، ومقابلة / السيستاني / له بعد تمنّع مديد ... كلّها عوامل تتداخل وتتفاعل لتشكّل منه ومن "جيش المهدي الذي يقوده ظاهرة ذات هويّة أكثر وضوحا وتبلورا ، وحسب تقديري أنّ المساومات التي حصلت معه من قبل ما يسمّى بالبيت الشيعي ، والخسائر الكبيرة التي تعرّض لها جيش المهدي ، والتدمير الذي لحق بمكاتب " الشهيد الصدر " على امتداد العراق ، واحتمال ابتلاع الأجهزة الحكومية قسما من عناصر "جيش المهدي " ... كلّ ذلك سيجعل الصدر وبالتدريج أكثر انغماسا في اللعبة السياسية ، وسيؤدّي إلى تغيّر تكتيكاته الكفاحية إذا استمرّ بها ، بحيث يبتعد عن المجابهات المباشرة الباهظة التكاليف مع القوّات المحتلّة ، واللجوء إلى حرب العصابات ، ومن الممكن أن يصبح له جناحان : أحدهما سياسي ، والآخر عسكري .... وعلى كلّ حال يجب عدم التسرّع في الحكم عليه عقب " خرجاته " السياسية ، أو الميدانية ، لأنّها جزء من شخصيّته ، وقد عبّر عنها بدقّة فائقة من خلال مقابلة له مع جريدة السفير اللبنانية بتاريخ: 17/5/ 2004 بقوله : " نحن نعمل بعدّة تكتيكات تبعا لظروف المرحلة الراهنة ، ومن الممكن أن تستمرّ مرحلة من المراحل فترة زمنية قصيرة ، وقد تمتدّ فيشتبه الأمر على البعض فيظنّها طرحا نهائيّا غير قابل للتبدّل . نعمل بعون الله وفق ظروف مختلفة تتطلب تغيير بعض توجيهاتنا من دون الخروج على أهدافنا الرئيسية ."   ... والثابت حتى الآن أنّ مقتدى الصدر قد قام بدور نضالي، وشكّل ظاهرة تستحقّ كل رعاية ودعم وصقل حتى تقوم بدورها الكفاحي بأقلّ الأخطاء من أجل المساهمة الفعّالة في مقاومة الاحتلال ، والإسراع في  تحرير العراق ، وتعزيز وحدته الوطنيّة ، ولو لم تكن هذه الظاهرة موجودة لكان من واجب القوى الوطنية العراقية السعي الجادّ وبكل السبل لإيجاد مثيل لها ... ومن هنا نستطيع القول : إنّ تصيّد بعض أخطائها من قبل أطراف سياسبة عراقية أوعربية ، والتشكيك بوطنيّتها ، لايخدم القضيّة الوطنيّة العراقية مهما حسنت النوايا ....