الموقف الديمقراطي

العدد 83

أمـا آن أوان البـدء  ؟

 

          بعد الاحتلال الأمريكي للعراق نشأ وضع جديد في الشرق الأوسط عموماً، والمشرق العربي خصوصاً. لم تتغير الجغرافيا، ولم تتغير حدود الدول.لكن الوضع السياسي فوق هذه الجغرافيا تغير بشكل جذري. احتلال العراق هو نقطة الانعطاف، وبداية عصر جديد في المنطقة . لم تعد الولايات المتحدة بعيدة. وقد كانت نسبياً كذلك، رغم قواعدها في الخليج. الآن أصبحت في قلب المنطقة تحد سورية والأردن وإيران وتركيا.

وفيما يخصّنا تضاف القوات الأمريكية إلى القوات الإسرائيلية، أو بالعكس تضاف القوات الإسرائيلية الى القوات الأمريكية. هذه الإضافة لا يمكن استيعابها بالجمع الحسابي العادي، ولا توصيفها بالصور البسيطة، لأن المخاطر الناتجة عن الوجود المتزامن لقوات الدولتين مخاطر مصيرية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. عدا عن أن الولايات المتحدة لا تكف عن ترديد القول بأن قواتها ستبقى في المنطقة إلى أمد طويل، وأن هذا البقاء مرهون بإعادة صياغة الشرق الأوسط، أي بإعادة تشكيله وتأسيس علاقات جديدة بين مكوناته.صحيح أننا نعيش الآن في الزمن الأمريكي عالمياً،لكننا أصبحنا كذلك شرق أوسطياً وعربياً. لا يهم إن كانت بدايات هذا الزمن تعود لتأسيس إسرائيل عام 1948, أو للاتفاقات البترولية قبل ذلك، أو لحرب العدوان الأولى على العراق عام 1991. المهم الآن هو هذا الوجود العسكري وثقل هذا الوجود، وعلاقته بمصائر الكيانات والشعوب. المشرق العربي والشرق الأوسط ,كلاهما، موضوع هجوم أمريكي مديد قابل للتحول من مكان آخر، وللاستعار في مكان والهدوء في مكان آخر,والهدف هو إلحاق المنطقة بالإمبراطورية الأمريكية وتشكيل نظام  إقليمي جديد فيها, يتكفّل بالسيطرة المديدة على مقدراتها.

          نحن الآن في قلب الخطر. وبغض النظر عما يمكن أن يحدث في الغد القريب، أو على المدى المتوسط، فإدراك الواقع مطلوب. لم يقتصر الدرس العراقي على الأشهر الأخيرة، بل امتد طيلة اثني عشر عاماً، بدءاً من عام 1991. والدرس العراقي بليغ لمن يريد أن يتعلم. لم نتعلم منه ما ينبغي طيلة السنوات الماضية حتّى وقعت الواقعة .ملخص الدرس هو أن قوة اجتماعية منظمة، عسكرية، أو عسكرية - مدنية، بمقدورها غزو السلطة والاستئثار بها وبمنافعها، والاحتفاظ بها بقمع المجتمع قمعاً منظماً يلغي الحراك السياسي فيه، لكنها عاجزة عن حماية البلد ،وحماية نظامها,بل  وحماية نفسها من غزو الخارج الأقوى منها، خصوصاً إذا ما قام بينها وبين مجتمعها واد من الدماء والدموع وعدم الرضا،وهو ما يحدث حتما طالما أنّها تحكم بدون تفويض حقيقي من شعبها.

          والدرس العراقي مليء بالعبر والعظات. أولها ضرورة رفع الصوت ضدّ الفساد والخراب،  والمطالبة بالإصلاح .وعلى الرغم من مطالبة الناس وإلحاحهم, فالإصلاح يبقى فعلا سلطويا, المبادرة إليه محصورة بيد السلطة، كلّما جرى التبكير بها، أعطت نتائج أفضل.وثانيها أنّ امتناع السلطات عن الإصلاح ،خوفا من الإخلال بتوازن القوى بين أطراف النظام أو إلحاق الأذى بمصالح أهل النظام أو مصالح بعض أطرافه ,وخيم العواقب على البلاد ,وكذلك على النظام وأهله.

          في الشارع السوري قناعة عامة وإدراك واسع بأن الإصلاح في سورية لم يصبح مطلوباً بسبب أحداث العراق، بل هو مطلوب منذ سنوات وسنوات. لكن أحداث العراق زادت في الإلحاح عليه. بل إن أحداث العراق، لم تقدر أن تحدّ من هذا الانتشار الوبائي للفساد في الإدارات والأجهزة، فكأنّ ما جرى قد جرى في بلاد واق الواق وليس في البلد الشقيق المجاور, أو كأن اقتراب الخطر من البلاد يدفع قوى الفساد لعدم تفويت فرص تخشى أن تفوتها. الإصلاح مطلوب لأن القانون ألحق به الشلل ,فأصبح عاجزا عن حماية الحق.

          وماذا نقول عن الحالة المعيشية للناس ؟ هناك ستون بالمئة يعيشون تحت خط الفقر، وهناك مئات الآلاف من السوريين يبحثون عن لقمة العيش في لبنان. لقد أصبحت ظاهرة البطالة مستفحلة  تصل إلى أكثر من عشرين بالمئة من قوى العمل، ناهيك عن البطالة المقنعة. حصة الفرد من الدخل القومي لا تزيد لأن الإنتاج الاجتماعي لا يزداد، وهي تبلغ ربع حصة الفرد في لبنان، الذي لا يملك لا نفطا ًولا  زراعة واسعة أو صناعة متطورة. فضاء الحرية ضيق وهناك معتقلون جدد يضافون للقدماء  في المعتقلات ولا يقدمون للمحاكم العادية ,يسجنون تحت غطاء حالة الطوارئ التي تخيم على البلاد منذ أربعين عاماً ونيف، وهناك مواطنون يعودون إلى بلادهم فتستقبلهم المعتقلات، ومهاجرون طوعاً أو كرهاً عاجزون عن العودة إلى بلادهم لأنهم غير أمينين على أنفسهم وعلى حريتهم. ليس بسبب هذه الأمور، وحدها، أصبح الإصلاح مطلوباً، علماً بأن هذه الأمور ما هي إلا نتائج الاختلالات البنيوية في النظام الاجتماعي القائم، وعلماً كذلك بأن جزءاً بسيطاً من هذه الأمور التي تعاني منها البلاد منذ سنوات وسنوات، سبب كاف في بلاد أخرى لإقالة وزارات وإبعاد مسؤولين ونزع الثقة من أحزاب وتسليم الراية لأحزاب أخرى ومسؤولين آخرين.ربّما لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.  

          الحقيقة أن البلاد لم تقطع خلال سنوات وسنوات أية خطوات جدّية على طريق الإصلاح. صحيح أنّ أولي الأمر يتحدثون في مناسبة أو أخرى عن مكافحة الفساد، وتقوم حملة محدودة لفترة محدودة تطاول بعض الرؤوس الصغيرة أو الأذرع الصغيرة ثم لا تلبث الحملة أن تهدأ ويرفع الفساد رأسه بعنفوان وينتشر إلى مواقع جديدة ويطور أساليب جديدة للفتك بالبلاد والعباد. كذلك يجري الحديث عن الإصلاح، وتتشكل اللجان وتنحل،وتقدم مشاريع وتناقش في الدوائر الضيقة، ثم تسحب وتبدل بمشاريع جديدة، لا تلقى إلا المصير الذي لقيته سابقاتها : الحفظ في الأدراج. أما الناس فهم كالطرشان في الزفّة، ليس لهم حق المشاركة، وإن كانوا قد انتزعوا، مع الأيام، حق الشكوى والكلام بينهم وبين أنفسهم.

          يتساءل المرء عن سبب غياب الإرادة في الإصلاح ! ربما هناك رغبة في الإصلاح عند البعض. لكن الرغبة شيء آخر غير الإرادة التي هي عزم على الفعل. لعل السبب في أن الإصلاح لا يهدد بعض المواقع وحسب، وهي مواقع لا بدّ أن القوى التي تحتلها لا تستطيع التنازل عنها وعن المكاسب التي تحققها من ورائها، بل يمكن أن يطاول بعض الأسس التي بني عليها النظام وتوازن القوى في داخله. وقد تكون كل هذه المخاوف والحسابات مفهومة قبل الذي حدث في العراق. لكن بعد الذي حدث في العراق، من المفروض أن الدرس قد أصبح في متناول الجميع ,لأن الحكمة ملقاة على قارعة الطريق, يستطيع التقاطها كل عابر سبيل. وعلى الرغم من ذلك فالأوهام تخالج بعض النفوس، بأن بالإمكان إبقاء كل شيء على ما كان عليه، وأن موجبات الإصلاح الملحة يمكن الإفلات منها، بناءً على الصعوبات التي تواجه قوات الاحتلال الأمريكي في العراق وبدء مقاومة ضدها في عدد من المناطق العراقية، وعلى الصعوبات التي تواجهها " خطة الطريق "  التي ترعاها وتشرف عليها الولايات المتحدة، بما سيجبرها على إنهاء مغامرتها العراقية والتراجع إلى بلادها، فتسلم الجرّة ويكفي الله " المؤمنين " شرّ الإصلاح وما يمكن أن ينجم عن الإصلاح. لكن الأمور تسير في الواقع على غير ما يتصوره منطق العواطف. استحقاقات الإصلاح لم يعد من الممكن التملص منها, والإصلاح المطلوب ليس عمليات تجميل للواقع القائم بهدف الحفاظ على بنيته التي قادت إلى الحال الذي نحن فيه، بل هو عملية انتقال تاريخية من النظام الشمولي الذي فات زمانه إلى النظام الديمقراطي، من الضروري أن تحصل على توافق اجتماعي عليها وعلى مراحلها, ومن المرغوب والممكن أن تأخذ شكلاً تدريجياً، يخفف من كلفة الإصلاح ومن آلامه. الإصلاح الحقيقي ليس إصلاحاً اقتصادياً، وليس إصلاحاً إدارياً، مع أن الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الإداري هما جزءان لا يتجزءان منه، لذلك نكرر القول بأن إطلاق العملية الإصلاحية يكون بالإصلاح السياسي المتوافق عليه بين قوى العمل والإنتاج والثقافة والفئات الاجتماعية الأخرى،والمتضمن للتعديلات الدستورية والعملية الضرورية له، بما في ذلك الضمانات الكافية لممارسة  الحريّات العامة. وإذا ما صحّ العزم ، يمكن الوصول الى التوافق الاجتماعي بطرق عديدة سلكتها بلدان أخرى قبلنا مثل الطاولة المستديرة والمؤتمر الوطني ، اللذين ترعاهما السلطة وتلتزم بنتائج مداولاتهما. على أنّ كلّ حديث عن الإصلاح لا معنى له ،ان لم تتخذ جملة من الإجراءات والتدابير الضرورية:                                                                                                 

- إلغاء حالة الطوارئ وإلغاء المحاكم الاستثنائية الناجمة عنها،مثل محكمة أمن الدولة .

- إعلان استقلال القضاء وإلغاء تبعيته للسلطة التنفيذية.

- إطلاق معتقلي الرأي والسجناء السياسيين.

- السماح للمبعدين أو المبتعدين سياسيا بالعودة إلى البلاد.

- حلّ مسألة " المفقودين " والتعويض على ذويهم.

- التعويض على المتضررين لأسباب سياسية.

- إطلاق حرية الصحافة.

هذه الإجراءات الضرورية للبدء بالإصلاح هي إشعار للناس بجديّة السلطة ,من جهة, وإفساح في المجال أمامهم للمشاركة النشيطة في عملياته وكذلك تحمّل تبعاته وأعباءه ,من جهة أخرى.                    إن عملية الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي هي, أولا, العملية المطلوبة, والممكنة, لمواجهة الأزمة الوطنية العامّة, التي لم تجْدِ في علاجها الحلول الترقيعية التي جربت وتجرب منذ الثمانينيات وحتّى الآن . وهي, ثانيا, لا تفتئت على أحد ولا تمسّ حقوق أحد, سواءٌ أكان شخصاً أو مجموعة أشخاص، حزباً أو مجموعة أحزاب، بل هي وضع الأمور في نصابها، وإعادة الحق إلى أصحابه، أي إعادة الحق إلى الشعب، مصدر السلطة ومصدر الشرعية، وصاحب الحق الذي لا ينازع، في اختيار نظامه السياسي والاجتماعي. ليست الديمقراطية "بضاعة " مشبوهة غريبة عن بلادنا، وليست الديكتاتورية " بضاعة " وطنية أصيلة تنسجم مع تقاليدنا وتتماهى مع هويتنا. لقد جربت سورية النظام الديمقراطي فترة طويلة، وجربت النظام الشمولي فترة طويلة كذلك. فلم تكن الديمقراطية سبب البلاء، ولم يجلب النظام الشمولي الشفاء، بل كان هو عين الداء. الديمقراطية هي السيادة الشعبية في الممارسة، وهي دولة الحق والقانون، وهي تداول السلطة، واستقلال القضاء، وخضوع السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية، وهي أخيراً وأولاً حريات الأفراد، وهي فوق كل ذلك قدرة المجموعات البشرية على العيش المشترك وعلى النضال لتحسين أوضاعها الاجتماعية وتحصين وجودها الوطني والقومي.

          كلمة لا بدّ من قولها حول حالة الطوارئ لأولئك "الغيورين" على مصلحة الوطن، والمحتجين بضرورات حالة الحرب مع العدو الصهيوني، وهي أن الأربعين عاماً من حالة الطوارئ لم تكن أبداً أربعين عاماً من الحرب مع العدو، ولم تستخدم السلطات الممنوحة من خلال هذه الحالة، إلا ضد الداخل وضد ناس البلد، وخلافاً لأي دستور أو قانون. هذا أولاً. وثانياً، يكفي أقل من دقيقة لإعلان حالة الطوارئ مجدداً إذا دعت الضرورة لذلك، مثلما حدث، ذات صباح قبل أربعة عقود.

          وفي الحقيقة لم تكن القوة مصدراً للشرعية. يمكن للقوة أن تنتزع السلطة وتحافظ عليها بوجه المجتمع إلى حين. لكنها عاجزة عن تأليف الناس حولها والوصول إلى قلوبهم، كما بينت تجربة العراق. كذلك لا يفيد الترقيع. والرقع الجديدة، لا تفعل شيئاً سوى أن تظهر بشاعة الثوب القديم واهتراءه.

 

سوريا و خيارات المستقبل

 

- 1-

اكتسب مقال اللواء بهجت سليمان في صحيفة " السفير " بتاريخ 15 / 5 / 2003 أهميته بسبب التناول الصريح والواضح لفرص سوريا وبدائلها الممكنة في ظل الوضع الإقليمي الجديد بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي . لقد خرج في مقاله عن اللهجة السياسية المعهودة في خطابات المسؤولين السوريين ، وعما هو مألوف في هذه الخطابات من عمومية وضبابية مقصودة ، فضلاً عن الهذيان الإيديولوجي في التلفزيون وافتتاحيات الصحف الرسمية ، والتي سُخّرت جميعها للتغني بالإنجازات والتطبيل والتزمير والدفاع عن " الثوابت القومية " بلغة بائدة كانت أحد أسباب انتشار الاشمئزاز من مجمل مكونات الخطاب ، خاصة في ظل سيادة آليات ما فتئت تضرب كل الثوابت والأهداف .

أدى الخطاب الرسمي على مدار عقود وظيفة أساسية على صعيد الداخل السوري تتمثل في تثبيت احتكار مجمل المعطيات الواقعية و السياسية ، لتغدو من اختصاص حلقة ضيقة تحتكر القرار السياسي بعيدا عن المجتمع . الوظيفة الأخرى التي أداها هذا الخطاب هي الوظيفة النفسية عن طريق ترك انطباع عند الناس بأن القائمين على الحكم هم وحدهم من يحق لهم الحديث في "السياسة" و "شؤون الوطن " .

لعل مقال اللواء بهجت سليمان يتجاوز ( نسبياً بالطبع ) من حيث الشكل الخطاب الرسمي المعهود ، وهذه هي إيجابيته الأساسية , و لهذا  فانه يستحق المناقشة و التعاطي مع مفرداته و مقولاته .

 

ـ 2 ـ

لكن هذا المقال لم يتجاوز معظم العيوب المعروفة في الخطاب الرسمي ، خاصة في انطلاقة هذا الخطاب  من مسلمة استغباء عقل الجميع شعباً ونخباً وسياسيين بالإيحاء بقدرة هذا الخطاب على الصمود في ظل تغيرات الواقع السياسية ، والإيحاء بقوة وهمية غير موجودة ، وعلى أقل تقدير غير منتجة لفعل واقعي ، وأقصى ما ينحو إليه هو التضليل والإبقاء على الآليات السائدة دون تغيير . بتعبير آخر ثمة انفصام مزمن في هذا الخطاب بين لغته ومضمونه من جهة والوقائع من جهة ثانية ، وهذه الصفة يبدو أن المقال لم يستطع تجاوزها ، خاصة في تعاطيه مع العلاقة السورية ـ اللبنانية و توصيفه للمعارضة السورية .

ـ 3 ـ

الغريب هو هذا الإقرار غير المباشر من صاحب المقال باحترامه للصحافة اللبنانية أكثر من الصحافة السورية . والسؤال ألم تكن الصحافة السورية " الراقية " جديرة بنشر هذا المقال ، أم أنه انضمام غير مباشرإلى نخبة الكتاب السوريين الذين يجدون مكانهم في صحافة خارج بلدهم، في حين تمتنع الصحافة الداخلية عن استيعاب رؤى مخالفة للخطاب السائد،أو ربما كان المقال سيمرُّ،بسبب صراحته النسبية، على الجهات الأمنية قبل صدوره في الصحافة السورية، وربما يخشى ألا توافق تلك الجهات على نشره !!

ـ 4 ـ

يرتقي الخطاب السائد درجة في تعاطيه مع مفهوم المعارضة ، إذ بعد أن كان لا يعترف أصلاً بوجود " معارضة سورية "  تحت شعار " الكل موافق " ، مروراً بالإشارة للمعارضين بضمير الغائب في خطب وتصريحات بعض المسؤولين وكأنهم مجموعة من " المخربين " ، أصبح يشار إليهم اليوم بالمعارضين ، وهو مؤشر إيجابي، إلا أنه لم يرتقِ لدرجة الاعتراف بالطيف المعارض كمؤسسات وأحزاب سياسية وهيئات مدنية .

قبل وقت ليس بالبعيد ، أشير للمعارضين بأنهم " أصحاب نزعات ثأرية " ، واتهموا بشكل مباشر أحياناً ، وبشكل غير مباشر أحياناً أخرى بالعمالة للخارج ، لكن اليوم يشار لهم بأصحاب " إحساس عال بالمسؤولية الوطنية " ، مثلما أصبح يشار إلى مطالبهم بشيء من التفهم ، لكن ذلك لم يتجاوز بعد الكلام اللفظي إلى الاعتراف بوضع قانوني للمعارضة ، وتغيير الآليات السائدة في الحكم والعلاقة بين السلطة والمجتمع بما فيه من أحزاب ومنظمات أهلية . هل نتفاءل بهذا التغيير الجزئي في الخطاب الرسمي ؟

يمكن القول أن الكلام وحده  ما عاد كافياً أو مؤشراً لحدوث تغيير إيجابي في الوضع الداخلي السوري ، خاصة وأننا سمعنا شيئاً من هذا القبيل سابقاً من مواقع هامة في الدولة ، ولم يحدث شيء يذكر على صعيد تركيبة النظام وعلاقته بالمجتمع والقوى السياسية ، فضلاً عن التراجع عن الكلام ذاته في مناسبات أخرى . يضاف لذلك أن صاحب المقال يتحدث باسمه الشخصي دون التلميح بأنه يقدم رأياً لهيئة رسمية ، كما أننا لا نعرف المدى الحقيقي لموقع صاحب المقال في تركيبة النظام حالياً بسبب انعدام الشفافية فيه ، خاصة وأننا تعوّدنا على تغيّر مدى نفوذ الأشخاص في هذه التركيبة ، فيما الآليات الناظمة ثابتة لا يطالها التغيير .

الجانب الأهم هو أن المعارضة السورية ليست بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من أحد ، فتاريخها وممارساتها يشهدان لها بأكثر من ذلك ، فضلاً عن أنه ليس من حق أحد أن يكون وصياً على "الوطنية " فيمنح شهادة بها للبعض ويحجبها عن البعض الآخر .

أما فيما يخص التخوف من " استغلال النوايا المخلصة لدى الحكم لترسيخ الحالة الوطنية بالانفتاح على جميع القوى لأغراض لا تخص الوطن والوطنيين "  فهو أمر يثير الدهشة حقاً ، لأن السلطة ، بحكم احتكارها لمجمل القوة والثروة على مدار عقود ، هي المسؤول الأول عن مدى " المناعة الوطنية " الحالية ، كما أن ما ينقص من هذه " المناعة " هو الممارسات الناجمة عن ترابط ثنائية الفساد والاستبداد ، وليس المواقف المعارضة التي ترفض آليات الفساد والاستبداد و تنتقدها دائماً .

الخطأ هو الأصل ، والحديث عن الخطأ لاحق ، والتغيير يبدأ من إصلاح الخطأ الذي هو السبيل لتمنيع الحالة الوطنية ، وليس كم الأفواه التي تشير إلى الخطأ وتطالب بإصلاحه .

أما عن احتمالات استعانة المعارضة السورية  ، كما حدث في العراق ، بالخارج ، فهو " بعيد تماماً عن أخلاقيات ومناقب السوريين ، ولا يجرؤ على فعله أحد منهم "  كما جاء في المقال . هذا التوصيف يوحي بأن التغيير في الخطاب لم يصبح بعد تغيراً أصيلاً بدليل التناقضات في مضامينه ، فمن جهة الإقرار بأخلاقيات المعارضة السورية ، ومن جهة ثانية رسالة تحذير مبطنة تعتمد التخويف إزاء هذا السلوك .

هل يجوز عموماً توصيف أي " سلوك سياسي " ، خاصة عندما يكون واسعاً ( يضم جماعات واسعة من المعارضة العراقية ) استناداً إلى العامل الأخلاقي ؟  وهل يكفي توصيف " المعارضة العراقية "  بأنها " معارضة لا أخلاقية "  في حين لا تسمح أخلاقيات السوريين بذلك ؟! أم أن الأمر أوسع وأعمق من هذا التوصيف ؟! . .إنه  يستند إلى مجموعة من المعطيات والوقائع السياسية ، وتلعب المبادئ و الأخلاق دوراً بين أدوار متعددة ومتشابكة .

لا يمكن ، بالطبع ، اختزال " الوطنية " بجذرها الأخلاقي . فالوطنية مفهوم تاريخي ، أي له علاقة بالواقع والزمن .ولا يكفي ادعاء الوطنية ليصب الطرح والسلوك في إطار المصلحة الوطنية ، فالطروحات والممارسات ، التي تعاند الزمن وتجافي حاجات الواقع والبشر ، لا يمكن إلا أن تصب في غير المصلحة الوطنية , و هي بالضرورة تنتقص من الطرح و الممارسة الوطنيتين .

 اليوم ما عاد ، بحكم الواقع والتاريخ ، إنكار أن الصفة الوطنية لا يمكن أن تتبلور أو تعني شيئاً في غياب الديمقراطية . ولو كان جائزاً جمع الصفتين في كلمة واحدة لكانت أصدق تعبيرا عن طموحات وحاجات السوريين في هذه المرحلة .

يفصح المقال كذلك عن خطأ كبير من الناحيتين الفكرية والسياسية عندما يقول : " في سوريا ليس هناك معادون للنظام القائم فيها ، وإنما هناك معارضون له "  .  إذ يشير وضع مفهوم " العداوة " كمقابل لمفهوم " المعارضة " إلى إدراك غير سوي لهذا الأخير . فالمعارضة مفهوم سياسي ، وليس مفهوماً بدوياً أو قبلياً ، وكان الأحرى أن يوضع إزاء مفهوم السلطة الذي يشكل نقيضه الجدلي في حقل واحد هو حقل السياسة الوطنية .

 على صعيد الممارسة السياسية فقد عوملت المعارضة الوطنية طوال عقود عدة بأحزابها وهيئاتها وشخوصها كأعداء ، إذ  زج بكوادرها وأعضائها في السجون فترات طويلة ، وحرمت من حق الوجود والتعبير عن نفسها بالوسائل المدنية والسلمية ، وما زالت هذه السياسة سائدة ، و إلا كيف نفسّر الأحكام الجائرة التي صدرت بحق مجموعة من الوطنيين الديمقراطيين المعتقلين منذ أيلول 2001 لمجرد ارتفاع أصواتهم في انتقاد الفساد والاستبداد المستشريين في مجتمعنا ، أو لمجرد إنشائهم لمنتديات وجمعيات سلمية يناقشون فيها حاجات الوطن ومستقبله ؟!

أما مطالب المعارضة التي جاء المقال على ذكر بعضها ( تحقيق بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية مثل إلغاء حالة الطوارئ وإنهاء الأحكام العرفية ، وإصدار قانون للأحزاب وترشيد توزيع الثروة الوطنية ) ، فإنها لا تشكل " بعضاً " بالنسبة لتركيبة النظام ونمط الحكم السائد . إنها تعني تغيراً كبيراً في النظام السياسي السوري ونقلة نوعية من دولة شمولية إلى دولة ديمقراطية يشارك فيها جميع مواطنيها في إدارة شؤون بلدهم ، وإن التقليل من حجم وأثر هذه المطالب لا يقلل من أهميتها و راهنيتها ، و إلا لماذا لا تنجز السلطة هذه المطالب باعتبارها " بعضاً " وتسكت الأفواه المطالبة بها ؟!

ـ 5 ـ

تغيرت البيئة الدولية كثيراً منذ أحداث 11 أيلول ، لكنها أخذت ملامح واضحة بعد احتلال العراق ، فالبيئة الحالية تمنع استقواء أي بلد بآخر ضد الولايات المتحدة ، والأهم هي حالة الشلل التي أصابت الشرعية الدولية ، أو على الأقل تسخيرها في خدمة واشنطن وسياساتها .

هذا الواقع الجديد بحاجة لقراءة دقيقة ومتأنية حتى تستطيع الدول الضعيفة الاستمرار فيه ، وسوريا هي إحدى الدول التي قادها قدرها إلى التواجد في منطقة حساسة من العالم تتضمن مصالح حيوية للولايات المتحدة ، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار التي يسببها وجود الكيان الإسرائيلي في المنطقة ، وما يستتبع كل ذلك من أعمال مقاومة ورؤى متصارعة وقوى متغايرة في الرؤى والتصورات تجاه المنطقة ومستقبلها .

هذا الواقع لا يعني الاستسلام أمام جبروت القوة ، كما لا يعني في الوقت ذاته الذهاب إلى حرب خاسرة سلفاً مع قوة عاتية لا يعترضها شيء.

ينبغي أن تكون الخيارات السياسية دقيقة لدول المنطقة إزاء التغيرات الإقليمية والعالمية ، وهذا يعني بناء هذه الخيارات على أسس علمية ثابتة نسبياً تنطلق من حقيقة أساسية هي أن هذه الدول إما أن تستمد القوة من ذاتها وإما أن تهلك . أما الركون والتعويل على تكتيكات وخيارات سياسية مؤقتة ، فإنه ما عاد يشكل حصانة لأحد .

من الطبيعي لأي دولة توجد في هذه المنطقة في ظل هذه المرحلة أن تمتلك هامشاً من القدرة على الحركة والمناورة وفتح الخيارات السياسية ، مثل ما عليها بالطبع مجموعة من الضغوط الواقعية ، وأمامها حدود تمنعها عن الحركة بحرية . لكن هذا الأمر ، على أهميته ، لا يقرّر مصائر الدول وتقدمها .  قد يقلل من الخسائر أو يؤجل الهزيمة ، لكنه لا يمنعها ، والدرس العراقي شاهد كبير على ذلك .

يمكن لسوريا ، كما يقول الكاتب ، "  أن تجد هامشاً واسعاً للمناورة وترتيب الأولويات وتغيير الخيارات أو تعديلها تبعاً لتطورات الموقف الداخلي والإقليمي والدولي "  ، وذلك بعد أن وضع كولن باول الرئيس الأسد في مواجهة خيار من اثنين : "  إما أن يكون جزءاً من مستقبل إيجابي ينتظر المنطقة ، وإما أن يبقى جزءاً من ماضيها " . هذا المستقبل الإيجابي مرهون ، كما يقول وزير الخارجية الأمريكي بتنفيذ مجموعة من المطالب أهمها : الأخذ في الحسبان الوضع العراقي الجديد ( و هو المطلب الأساس ) ، وعدم عرقلة المساعي الخاصة بتطبيق خارطة الطريق ، والانسحاب من لبنان ، وغير ذلك من أمور .

لسوريا حقاً القدرة على المناورة ، لكن الآخرين أيضاً يمتلكون هذه القدرة . على أن هذه المفاخرة السورية بالقدرة على التكتيك والتحرك وسط خيارات سياسية كثيرة ليست جديدة ، إلا أن الجديد هو استنادها اليوم إلى معادلة من طرف واحد ، إذ يغيب عنها أن المناورة يضيق هامشها وتضعف قدرتها كلما أصبحت سياسات القوة هي الحاكمة ، وأهم الدلائل على ذلك هو التجاوب السوري السريع مع بعض المطالب الأمريكية , كإغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية في سوريا ، وإغلاق الحدود مع العراق ، والإعلان السوري بقبول ما يقبله الفلسطينيون .

الأهم من ذلك هو أن هذه المناورات والتكتيكات غير منتجة على المدى المتوسط والبعيد ما لم تستند إلى معادلات القوة الداخلية لإعادة إنتاج القوة الوطنية في الداخل السوري ، ولهذا شروطه المعروفة التي ما زالت تركيبة النظام تمنع تحقيقها .

شروط القوة والتقدم والمناعة الوطنية تمثل حاجات حقيقية وأصيلة للداخل السوري ، و هي الطريق الوحيدة لإيقاف أو تعطيل سلسلة الهزائم المتلاحقة . والخيار السياسي الحقيقي هو السعي باتجاه تحقيق هذه الشروط قبل أن يسعى الخارج لرسم اللوحة الداخلية على مقاسه وانطلاقاً من مصالحه .

لا يمكن النظر لمفهوم " العمق الاستراتيجي "  باعتباره مفهوماً جغرافياً خالصاً .  إنه مفهوم سياسي بالدرجة الأولى ، وتشكل الجغرافيا أحد أبعاده . من الناحية الموضوعية شكل العراق , دائما , عمقا استراتيجيا لسورية , كما شكلت سورية عمقا استراتيجيا للعراق . لكن ذلك , لم يكن إلا في " عالم القوة " و ليس في " عالم الواقع " , أي أن هذا المعطى الموضوعي كان بحاجة لسياسة فعلية من الطرفين لتجسيده على الأرض , بينما لعبت السياسات القطرية الضيقة , التي مارسها البلدان ضد هذا التجسيد و ضد تحقق هذا العمق . إسرائيل مثلاً لا تمتلك أبعاداً جغرافية أكبر من سوريا ، إلا أنها تمتلك عمقاً استراتيجياً داخلياً بعيد المدى .

يبدأ العمق الاستراتيجي أولاً من داخل الوطن ، وبعدها يتم التطلع لإنشاء عمق آخر أوسع على صعيد السياسة الخارجية تتوافر فيه الاستمرارية وليس الصفة المؤقتة التي هي من طبيعة " سياسة اللعب بالأوراق " ضيقة النفس وقصيرة المدى . وفقط عند توافر العمق الاستراتيجي الداخلي ( الشعب ، الدولة الوطنية ، الديمقراطية ) يكون للتحالفات والتنسيق معنى وقيمة حقيقية . و لذلك ، فإن الأهم للسياسة السورية  التوجه لإصلاح الوضع الداخلي وتمنيعه .

ينبغي أيضاً إعادة النظر بالعلاقات السورية اللبنانية من زاوية المصلحة السورية واللبنانية معاً . هذه المصالح المتبادلة لا يفيدها التبريرات القديمة للوجود السوري في لبنان التي جاء المقال على ذكرها ، فالتحديات الجديدة بحاجة إلى خطاب سياسي جديد .

ما يثير  الاستغراب في هذه النقطة هو الإقرار من حيث المبدأ بمعادلات التوازن والقوى الجديدة في المنطقة ، وإنكارها على صعيد الخطاب السياسي والممارسة السياسية ، إذ ليس هناك ضمانات بأن أمريكا لن تحمل سوريا مسؤولية ما سيقع في لبنان فيما إذا تحوّل جنوبه إلى ساحة صراع ضد إسرائيل ، بعد انسحابها منه ، فسياسات القوة السائدة اليوم لا تستند إلى المنطق و القانون ، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يبقى الدور السوري في لبنان مجرد حارس لحدود إسرائيل الشمالية ، أي  " كعنصر توازن في ظل اختلال التوازن الديمغرافي وتزايد نفوذ الأصوليين " .

ما نريد أن نقوله أن حماية الوطن وبناءه لا يتمان عن طريق الركون لاحتمالات عديدة هشة قد تذهب في أي اتجاه ، أو عن طريق التعويل على تكتيكات قصيرة المدى . .يجب أخذ العبرة من التجارب الماضية ، ولنسأل أنفسنا ما هي الوقائع والنتائج التي أفرزتها " سياسة اللعب بالأوراق " التي تستند إلى التعامل مع المستجدات بطريقة الهروب منها تارة والالتفاف عليها تارة أخرى شريطة عدم التقدم خطوة واحدة باتجاه إطلاق سيرورة الإصلاح الداخلي !! .  نعتقد أنها لم تحرّر الأرض التي نرفع لواء تحريرها ، ولم تتقدم بالوطن خطوة واحدة لتعزيز مناعته وحصانته .

 بناء الوطن ليس مقامرة يغدو فيها كل طموحنا التكيف مع السياسات العالمية والظروف الإقليمية وحسب ، وبما يساعد على إبقاء الأمور الداخلية ثابتة دون تغيير .

بناء الوطن مجموعة من الخيارات السياسية والاقتصادية المتفق عليها داخل الوطن بين قواه السياسية وفئاته الاجتماعية ، لتغدو معها السياسة الخارجية مستندة إلى قوة الداخل بالدرجة الأولى وليس فقط إلى حنكة " اللعب بالأوراق " وتأجيل الاستحقاقات .

 

         

خريطـة الطريـق000 اختيـار فلسطيني آخـر

 

قوبل تكليف محمود عباس برئاسة الحكومة الفلسطينية بحالة لا تخلو من التشكيك وعدم الرضى فلسطينياً و عربياً0 وما شجع على هذا التشكيك الضغوط التي مارستها أمريكا و الاتحاد الأوربي على الرئيس الفلسطيني لتكليف أبو مازن كشرط لإطلاق خارطة الطريق0

تأسيساً على أن السمة الأساسية للسياسة العربية هي ( رد الفعل)،فإن أغلب التحليلات على اختلاف أنواعها انتهت إلى أن رئيس الوزراء الفلسطيني لابد وأنه يحمل مشروعاً تفريطياً يسير خارج خط " المقاومة و التحرير الكامل". لا بل يمكن أن يقود إلى الاصطدام بهذه المقاومة ،وذلك لأن أمريكا راضية عن اختياره . وما دامت أمريكا ضد المصالح العربية على طول الخط،فحكماً فإن عباس،وقبله ياسرعرفات،إبان أوسلو وحتّى أثناء كامب ديفيد،/2/ أو أية شخصية فلسطينية أخرى قد تتبوأ المسؤولية في مسيرة النضال الفلسطيني، سيواجه بنفس التعليقات و الآراء المسبقة وينسى أو يتناسى الجميع أن قضيةً بحجم و تعقيدات القضية الفلسطينية و تاريخيتها،وشعب كالشعب الفلسطيني وقدراته الهائلة على التضحيات في سبيل حريته و الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي،فإنه لا يمكن لأي شخص مهما كان وضعه أن يفرطّ،لأن الأسهل أن يفُرطّ به0 و استدراكأ فإن التحفظ ليس لأن محمود عباس أو غيره فوق التساؤل لا بل إن الواجب يقتضي في وضع كالوضع الفلسطيني أن يكون الجميع تحت السؤال،أقله للتذكير بحدود القضية الفلسطينيـة0

كثيرة هي الأسئلة التي تصدم الذهن و تتكرر كلما مرت القضية بمفصل قد يكون مصيريا . هل المشكلة في هذا القائد أو ذاك , و كأن كل واحد منهم يأتي مقطوعا عن تاريخه ؟ ما هو الداعي لتقزيم القضايا المصيرية إلى مستوى الأشخاص  ؟ دون إهمال دور الأفراد في التاريخ ، هل المشكلة في العقل السياسي العربي ولا تاريخيته ؟ أم هو هروب من مواجهة الحقائق كما هي ؟؟  هل هذه المواقف مصطنعة تخفي وراءها رفضاً لفكرة التسوية من أصلها ؟  والاستعداد تالياً لكافة الخيارات ؟ وإذا كانت الأمور كذلك لماذا لا يعبر عنها بصراحـة ؟.

لقد بينت التجربة أن المقتل الأساسي في النضال الوطني الفلسطيني هو غياب المشروع الوطني الفلسطيني و غياب الإجماع عليـه0والمقصود مشروعُ يلتف حوله الشعب الفلسطيني التفافأ يمكن قادة هذا المشروع من التعامل بمرونة مع مستجدات الواقع و الظروف0 مشروع واضحة فيه الخطوط بين التكتيكي و الاستراتيجي و يستطيع أن يتعامل مع العامل الخارجي الإقليمي و الدولي-بلغة واحدة و واضحة ,  مشروع تكون فيه الأهداف واضحة و الأساليب متبدلة حسب الظروف وخادمة للهدف لا قيداً عليه 0

المشروع الوطني الفلسطيني رغم صعوبة الظروف و استثنائيتها كان و مازال حلماً فلسطينياً،لكنه لا يزال بعيد المنال رغم قناعة الجميع بأنه المخرج من مأزق الحالة في وجهها الفلسطيني0 فالعالم لا يقبل أن يتعامل مع سلطة لا سلطة لها على مكوناتها , مهما بلغ تعاطفه مع القضية الفلسطينية،أو تفهمه لمعاناة الشعب الفلسطيني وطرق مقاومته0 حوارات القاهرة في الخريف الماضي بين الفصائل الفلسطينية انتهت إلى طريق مسدود . وكذلك الجهود الداخلية التي بذلت بعد ذلك و مازالت 0 فما هي أسباب هذا الفشل ؟

ثمة أسباب كثيرة تقف عائقاً أمام وحدة الجهود الفلسطينية ،إيديولوجية و فكرية و سياسية، محلية وإقليمية و دولية , وقبل ذك وبعده طبيعته الكيان الصهيوني و الدعم الدولي الذي تؤمنه له الولايات المتحدة وتجعل العنف الإسرائيلي و عدوانيته دفاعاً عن الذات و دفاعاً عن "السلام"0

كانت منظمة التحرير الفلسطينية تشكل إطاراً تنظيمياً للعمل الفلسطيني في وقت لم يطرح فيه الواقع حقائق تنظيميةً جديدةً،كحماس و الجهاد الإسلامي 0 ومع قدوم سلطة المنظمة إلى الأراضي المحتلة بعد أوسلو،وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية،عجزت حركة فتح التي شغلت كافة حيزات السلطة،عن استيعاب قضية الفصائل بالتنازل عن مشروعها الخاص لصالح مشروع وطني يحتمل الاختلاف و التنوع , و تؤطره أهداف واضحة. لا بل عانت فتح انزياحاً إيديولوجياً لكثير من كوادرها إلى الاتجاه الذي تمثله حماس و الجهاد،اللتان كانتا تتوسعان شعبياً بحكم الانتفاضة وتحولاتها وبحكم المناخ العام في المنطقة العربية وبحكم الإيديولوجيا المحمولة , و المحملة بما يلامس الحس الشعبي العام في المنطقة ما دون السياسي، في ذات الوقت الذي مازالت تصر فيه حماس و الجهاد على البقاء خارج المنظمة.

النقطة الثانية هي أن كل الفصائل الفلسطينية الفاعلة تعاني مشكلة غلبة " الإيديولوجي" على " السياسي" في خطابها , لا بل إن لكل منها أجندته الخاصة التي كثيراً ما تكون أوسع من فلسطينية،تحّد من إمكانية التعامل مع حركة المد و الجزر ومتطلبات الوضع الفلسطيني والدولي بما يتلاءم و تغير الشروط الدولية0

النقطة الثالثة:هي مشكلة العلاقات العربية الفلسطينية،المشكلة القديمة الجديدة , بحكم التواجد الفلسطيني في أكثر من دولة عربية , و ارتباط فاعليات العمل الفلسطيني خارج فلسطين بهذا التواجد , مما يحتم على المنظمات الفلسطينية أن توجد طرائقها الخاصة للتعامل مع كل نظام عربي على حده , آخذة باعتبارها توجهاته و مواقفه السياسية و الإيديولوجية0

وإذا كانت هذه المشكلة في الأساس هي مشكلة عربية , فيجب أن تكف الدول العربية عن التدخل في القرار الفلسطيني و اللعب بالتباينات و الرؤى السياسية بين الفصائل الفلسطينية0

وإذا كانت مشكلة الدول العربية أنها لا تملك مشروعاً عربياً و غير راغبة فيه أو عاجزة عنه،فمن باب أولى ألا ترحّل هذه المشكلة إلى الفلسطينيين 0 فمعطيات الواقع اليومي و الموضوعي في الأراضي المحتلة تختلف عنها في بغداد أو دمشق و عمان و القاهرة , كما أنه قد حان الوقت للأنظمة العربية أن تقلع عن دعم سياسة هذا الفصيل أو ذاك , إلى سياسة دعم الشعب الفلسطيني0

طرحت خارطة الطريق التي صاغتها الرباعية الدولية في ظروف عربية و فلسطينية غاية في الصعوبة. فالعراق كان قد أُحتل ويريد الأمريكيون حصاد ثمار انتصارهم في العراق , أو هكذا يرغبون على الأقل . والانتفاضة الفلسطينية التي دخلت بعد /11/ أيلول منعرجات صعبة بحكم التفويض الأمريكي لارييل شارون في مقاومة " الإرهاب" و السكوت الدولي عنه، و إطلاق إسرائيل موجه غير مسبوقة من العنف و القتل و التدمير في ذات الوقت الذي علت فيه الأصوات في العالم و عند بعض العرب و الفلسطينيين بوقف العمليات الاستشهادية0

 مما لاشك فيه أن خارطة الطريق لا تلبي الطموح الفلسطيني . هذا إذا لم تفشل بدءا بأيد إسرائيلية , فشارون و اليمين الإسرائيلي،ذوو العقل المحلي المسكون بالجبال و الطرق الالتفافية و البؤر الاستيطانية , لا يريدان لهذا المشروع و غيره الاستمرار، أقله قبل كسر إرادة الشعب الفلسطيني , و ليس أدل على ذلك من إصرار شارون على معالجة نتائج الصراع و التعامي عن أسبابه0

إن القائمين على القرار في  إسرائيل و المشروع الصهيوني يرون أن: الظرف الدولي الراهن و الهوس الأمريكي بمحاربة الإرهاب , يوفران مناخاً يجب استغلاله حتى النهاية لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين وتدمير وسائل عيشهم و تقزيم الحلم الفلسطيني إلى أدنى حدوده , وهذا ما بينته الأيام التالية لقمتي شرم الشيخ العقبة0

أما على الجانب الأخر , و بغض النظر عن بعض المفردات غير المقبولة التي احتواها خطاب محمود عباس في العقبة , فانه في العمق لم يكن أمام السلطة الفلسطينية المحاصر رئيسها و المعزول و المرغم على التخلي عن بعض صلاحياته،سوى القبول بخارطة الطريق،لأن رفض الخارطة كان يعني بالضبط القول لا للعالم،و العالم مهم للقضية الفلسطينية حاضراً كما كان ماضياً،أملاً في أن تفتح هذه الخطة باباً للعمل للسياسي و الخروج من دوامة العنف الذي وصل إلى طريق مسدود0 الجانب الأمريكي بدوره رغم إصراره على نجاح خارطة الطريق باعتباره تعهداً شخصياً للرئيس الأمريكي , إلا أن متابعة خطب الرئيس بوش الأخيرة وتركيزه على حماس بصفتها اقنوماً للشر كما فعل سابقاً مع أسامة بن لادن وبعده صدام حسين , ربما يكون من باب أخذ احتمال فشل الخارطة بالحساب و تحميل هذا الفشل لحماس0

ترى أوساط فلسطينية في القبول بخارطة الطريق تفريطاً غير مقبول في زمن الانكسار العربي،بينما يريد شارون وأحزابه من هذه الخارطة أن تكون باباً للحرب الأهلية الفلسطينية0

والسؤال هو هل يستطيع الفلسطينيون تجاوز هذه المحنة، وأن يحولوها إلى فرصة لبسط أمورهم على الطاولة بوضوح،وبما يتيح تفاعل مختلف التصورات والرؤى الفلسطينية،وبما يسمح بمناقشة أوضاع الانتفاضة و تطوراتها و يعمل على تجنيبها مخاطر الانعزال عن القاعدة الشعبية الواسعة و الانزلاق إلى العسكرة الضيقة بطبيعتها،في ظل أوضاع مختلفة وغير متكافئة،وبما يسمح بولادة مشروع وطني فلسطيني متفق عليه بين القوى الفاعلة على الساحة الفلسطينية،مشروع حاصل على الإجماع الشعبي الفلسطيني وقادر بالتالي على تعبئة طاقات هذا الشعب0

الأمر يتعلق بإرادة الشعب الفلسطيني. وعلى الأنظمة العربية،إذا كانت تريد خيراً للقضية الفلسطينية،أن تساعد في ذلك . ولعل اتفاق الفصائل الفلسطينية الثلاث : فتح و حماس و الجهاد , على ورقه الهدنة مقدمة مشجعة0

الخلاصة،على وحدة الشعب الفلسطيني وصموده بوجه الضغوط سيكون الرهان على تخفيف الأخطار التي تهدد القضية الفلسطينية و المشرق العربي,  الذي بات حقل تجارب للسياسات الأمريكية التي تريد فرض هيمنتها على العالم بالقوة العارية0 وليس القصد من طرح مشروع خارطة الطريق إلا العمل في هذا الاتجاه و التوسع باتجاهات تتجاوز الوضع الفلسطيني0 

    

 

ثـورة 23 تمـوز و الوضـع العربي الراهـن

 

يشير التحليل التاريخي،إلى أنه ،ثمة مسافة تصل إلى حدّ التعارض في أحيانٍ كثيرة بين التحّولات الكبرى التي تشكّل في مسارها،و محصلتها، محاولات بينة لتغيير مسار التاريخ ،و النهوض بأمةٍ من الأمم في لحظة انعطافٍ لا يمكن تجاهلها،وبين آليات العمل السياسي المحكومة بنوعٍ من الرؤية التي لا تدرك أهمية و أبعاد الانتشار الديالكتيكي لحركة التاريخ في حياة الشعوب0

ولم تكن ثورة /23/ تموز 1952 التي ابتدأت من خلال أهدافها الستة المعروفة،حركة تحرر وطني مصرية،لتنمو و تتحول عبر تفاعلها العميق بمحيطها العربي و الإقليمي إلى مشروعٍ للنهضة و التغيير يأخذ موقعه في فضاء العمل بدلالة أهداف الأمة العربية و مشروعها إلى التحرر و التحرير و التقدم و التنمية،إلا إحدى أبرز هذه التحولات التي أعلت من شأن الحراك السياسي و الاجتماعي و الثقافي لتوجهٍ عام وشامل نحو بناء نهضة كبرى 0

ولسنا الآن بصدد التفصيل فيما قدّمته ثورة عبد الناصر على طريق إنتاج مقّومات النهضة،وسلسلة أفاعيل التحرر الوطني و القومي التي أطلقتها في الداخل العربي و محيطه الإقليمي وتفاعل الجماهير العربية مع التطورات المتسارعة من الأحداث،وحجم التحّديات التي واجهتها من القوه الخارجية المعادية و تفاعلها مع مقومات التخلّف الحضاري لبنية المجتمع،وموروثه المنبعث من جوف التاريخ،وتداعيات الفعل الإقليمي المتعارض مع أهداف الثورة الذي حّول التجزئة السياسية إلى مواقع الاستعصاء الكياني لأصحاب التفّرد في السلطة و الحكم الشمولي0

إلاّ أن الثابت،على امتداد درس التاريخ المعاصر،وما يمكن أن يشكل منهجاً وبنية وظيفية تؤسس للإحاطة بحقيقية الوضعية العربية الراهنة واستشفاف آفاق المستقبل العربي يتحدد في مجموعة من المعايير التي يمكن اختيار البارز فيهـا:

1- حجم المسؤولية التاريخية في العمل لتحقيق مشروع نهضوي توحيدي في هذه المنطقة التي تمتاز بموقع جيوسياسي متميز تتقاطع فيه كافة المصالح الإمبريالية العالمية،مع إدراك أن حدود النجاح تتوقف على درجة الاستقطاب الوحدوي الجماهيري،والقدرة على ممارسة تغيير الواقع التجزيئي القائم و الانتقال للتعبير عن الارتباط الوثيق بين الإرادة الوطنية و النضال الوحدوي0

2- المبادرة للانتصار لفصائل حركة التحرر الوطني العربية،والعمل على توثيق العلاقة بينها في اتجاه توحيد الهدف الذي يتمثل في النضال على محور التحرر ومواجهة القوى الخارجية المعادية وما يرتبط بها من قوىً مضادة في الداخل العربي0

3- الإدراك العميق لأبعاد مشكله التخلف الحضاري،أو جدلية العلاقة بينها وبين الكيفية التي يمكن من خلالها بناء الأسس الموضوعية للتنمية البشرية و الاقتصادية و إحلال السياسة في المجتمع بكافة فئاته وشرائحه ،و التأسيس للوحدة الوطنية القادرة على رفع وتائر المشاركة الشعبية في العملية الإنتاجية في مختلف ميادين التنمية0

4- الارتباط الوثيق بين إنجاح العملية التنموية متعددة الأبعاد،والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية في الداخل الوطني،كما على المستوى القومي العربي الذي يتمثل في ضرورة بناء التكامل الاقتصادي العربي وفقاً لمعايير إعادة توزيع الثروة العربية بما يضمن توظيفها في البينة الاقتصادية القومية و مجالات العملية الإنتاجية0 

5- العمل على بناء الدولة الوطنية الحديثة،الصائرة والمتحولة إلى موقعٍ للنهوض الوحدوي،بغض النظر عما أصابها من تشوّهات بيروقراطية مرتبطة بالطبيعة البنيوية للدولة ذات التوجهات الاشتراكية في سياقها التاريخي العالمي0

6- امتياز قيادة عبد الناصر بإدراكها العميق لمعادلة السياسة الدولية،وكيفية توظيف عناصر هذه المعادلة المعقدة و الشائكة لبناء الأسس الموضوعية لسياسة التحالفات العربية الدولية ومواجهة المطامع الرأسمالية العالمية المرتبطة بالتوجهات الرئيسة للمشروع الصهيوني في قلب الوطني العربي0

ولعل البارز في هذه المعايير وغيرها،الدرجة العالية من التوافق المنطقي والمعرفي بينها،واتساقها مع ما يمكن أن يكون عليه التوجهّ الوطني/القومي،و التكامل الذي يشكّل الناظم الرئيس للارتباط الوثيق بينها في كلٍّ متكامل ، بحيث لم يكن هناك من افتراق بينها , بين منهج السياسة الداخلية و العربية و الدولية التي قامت قيادة الثورة بممارستها في خطوطها الرئيسة0

لذلك فإن الأعمال العدوانية المتتابعة التي قامت بها القوى الخارجية المعادية من معركة السويس و العدوان الثلاثي /1956/ وحتى عدوان حزيران1967 لم تكن في حقيقتها إلاّ محطات لإجهاض مشروع نهضوي عربي متكامل الأبعاد،سوف يؤدي في النتيجة إلى إعادة إنتاج الحضارة و التقدم العربي ،و مقدماته الأولى العمل على إنهاء كافة المصالح الإمبريالية في المنطقة،وفي إطارها المشروع الصهيونـي0

وهذا ما أدركته الأمة العربية التي وقفت منذ البداية إلى جانب الانتصار للثورة بكافة الوسائل و الأساليب الممكنة و المتاحة،لأنها الثورة /البرنامج التي شكلّت اختراقاً واضحاً لمعادلة التجزئة السياسة و التخلف الحضاري العربي0

ولا ريب أن أبرز تناقضات الخطاب السياسي العربي هو عقدة المقارنة بين ما جسّدته ثورة عبد الناصر ومسار قيادتها ونهجها العام الذي أدّي إلى إحداث تحّولات عميقة في البينة الاجتماعية و الفكر السياسي،وبين تلك النظم و التنظيمات التي قامت باسم الأمة وأهدافها،وطموحاتها لتمارس عملية الالتفاف عليها،وبناء "السلطات القطرية" وتؤكد على منهجها في التأسيس للتقومن القطري الذي يتعارض في طبيعته البنيوية وفي العلاقات الداخلية التي تمّ تنظيمها بآليات القمع و الاستبداد،مع كل ما يمكن أن يعيد إنتاج النهوض القومي العربي0

وتجدر الإشارة،هنا،إلى ما يمكن أن يوضح حدود هذا التناقض في تاريخنا المعاصر, ففي الوقت الذي منيت فيه القوات السورية و المصرية بهزيمة عسكرية خلال الأيام الخمسة الأولى من حرب حزيران /1967/ نتيجة لتآكل وفوات المؤسسة العسكرية وقيادتها البيروقراطية يعلن عبد الناصر عن مسؤوليتة الكاملة عما حدث ويقرر الاستقالة من موقعه في رئاسة الجمهورية , بينما يعلن غيره أن العدوان الصهيوني فشل لأنه لم يحقق هدفه الأساسي بإسقاط النظام ،أما احتلال الجولان فليس شيئاً ذا بـال 0

ولم يختلف الأمر في بغداد زمن اجتياح الكويت , فبعد أكثر من عشرين عاماً من قمع الشعب العراقي و الاستبداد به, تشبّث صاحب " أم المعارك" بديكتاتوريته وتشديد قبضته الأمنية على الشعب الذي تعّرض لحملات الاعتقال والتعذيب و التصفيات المتتابعة ،والاستمرار بتدمير المجتمع0 

أما عن موقف الشعب المصري،من جانبٍ آخر , من مبادرة عبد الناصر للاستقالة من منصبه ( وفي أحلك اللحظات التي تكشفت فيها أبعاد لنكسة) فلم يكن ليصدر إلاّ عن شعوره الوطني وإحساسه العميق أن الأفاعيل التي ستنطلق في أعقاب الاستقالة،سوف تحّول الهزيمة العسكرية إلى هزيمة سياسية و اجتماعية ووطنية للأمة العربية،فكانت وقفته التي أوقفت التدهور عند حدودها المعينّة . ليصار بعدها إلى إعادة بناء مقّومات الصمود الوطني،و انتزاع الموقف القومي في رفض الهزيمة وإعداد القوات المسلحّة وسط حرب الاستنزاف وذلك بعد إعادة إنتاج الوحدة الوطنية على قاعدة القيام بالعديد من خطوات الإصلاح السياسي0

ويبدو في اللحظة الراهنة بعد احتلال العراق حيث يمكن للعدو أن يجد سبيله ليطال أقطاراً عربية أخرى تتحكم بها هذه الأنظمة التي لا تختلف عن نظام صدام حسين المنهار،سوى في الدّرجة بحيث يمكن أن يكون الأسوأ فيها على نحو ما . وفي كل الأحوال فإن الموقف و القومي العربي للجماهير وقواها الوطنية وفاعلياتها الاجتماعية و الثقافية،من تطورات الأحداث لم يكن يوماً ليصدر إلاّ من الإدراك بضرورة مواجهة الغزاة و المحتلين , لكن الموقف من هذه الأنظمة بعد استقالتها من مسؤولياتها القومية أمر يختلف عن ذلك000 

وينطلق أساساً إلى جانب المسألة الوطنية ذاتها،من قضايا المجتمع العربي التي لا يمكن لها أن تنفصل عنها،وعما يحب أن يكون عليه هذا المجتمع و وطنه العربي في المستقبل000

وحقيقة الأمر،فإن السؤال الذي ما يزال يطرح نفسه عل امتداد نصف القرن الماضي،وحتى الآن : ما هي طبيعة المجتمع الذي نريد له أن يكون؟؟ وما هو نظامه السياسي و الاقتصادي الذي استقرت عليه الآراء في الأذهان؟!

وفي البحث عن الإجابة الموضوعية،التي تختلف عن السابق نلاحظ أن المتغيرات العاصفة التي أصابت العالم من حولنا،قد أصابت العديد من المعايير في إطار ترتيب الأولويات،وفي كيفية النفاذ إلى محاولة تحقيق الإجابة التي يمكن التوافق عليها،في المجتمع المعني0

وفي ظلّ الوضعية العربية الراهنة، وما تتسم به من تفكّك وهوان وتخاذل أمام القوى الخارجية المعادية " وفي المقدمة إسرائيل" بالرغم من كلّ النقاط المضيئة المتفرقة،من جنوب لبنان إلى الانتفاضة الوطنية الفلسطينية وصولاً إلى الإرهاصات الوليدة لمقاومة وطنية عراقية للاحتلال الانغلوأمريكي فإن الإجابة على التساؤل الرئيس الذي أشرنا إليه يتطلب توافر عاملين موضوعيين: أولاهما تحديد مساحة الاختيار الذي يمكن للأمة أن تبحث من خلالها عما يعيد إنتاج وجودها السياسي و الاجتماعي في هذه المنطقة من العالم،و الثاني هو توافر الإرادة الوطنية/القومية في مركز القرار السياسي العربي،وبدون توافر هذين العاملين،تفتقد الأسئلة و الأجوبة رصيدها في إمكانية التحول من البحوث النظرية إلى الترجمة العملية لخيار الأمة ودلالة مشروعها النهضوي0

ومساحة الاختيار التي نقصد تعتمد أولاً على توفير مقومات ممارسة الخيار الوطني الداخلي لفاعليات المجتمع المتعددة و أطيافه السياسية،ولا يمكن لهذا أن يتحقق دون إعادة إنتاج بنية سياسية وطنية/ديمقراطية منبثقة عن التعاقد الاجتماعي،وفي الموقع الذي تتمكن فيه من استبدال السلطة القمعية بدولة مدنية حديثة لا يعتريها ذلك الانكسار المفاجئ الذي أصاب السلطة العراقية0

لذلك فإن حلّ المسألة الديمقراطية ومختلف القضايا و الإشكاليات الأخرى العالقة داخل الدائرة السياسية في سورية منذ أكثر من ثلاثة عقود،لا يتأتى من كونه استجابة وطنية لنتائج حدث معين (كالحدث العراقي كما يحاول البعض أن يفسّر , على أهمية ذلك وراهنيه ) إلا أن الأمر يتعدى حدود الفهم القاصر هذا،إلى ضرورة التأسيس المدني الحديث لكامل العلاقات السياسية و الاقتصادية و الثقافية في المجتمع،إضافة لإعادة إنتاج الثقافة الوطنية و القومية،بطريقة تعتمد على دمقرطة الثقافة وليس على إفراغها من أبعادها و مضامينها الحقيقية عن طريق تحويلها إلى مجموعة من الشعارات التي يتم الالتفاف عليها بصورة دائمة0     

ويبقى أن نشير إلى أن ( الحدث العراقي) وما يحدث في فلسطين من تصفيات متتابعة للجسم الاجتماعي و السياسي الفلسطيني يضع الأمة العربية، عبر التداعيات القادمة في أفق المستقبل،أمام أخطار واضحة تتناول وجودها الإنساني،وهذا يترتب عليه ضرورة الإدراك العميق لأبعاد المسؤولية ، والاستحقاقات الوطنية التي تتطلبها مهام المرحلة القادمة،فالتاريخ لا يهزل , واتباع أساليب المناورة السياسية في الداخل لا يجدي شيئاً أكثر من كمحاولة إدارة الأزمة المتفاقمة بطريق أضحت مكشوفة بدلاً من إتباع السّبل الصحيحة لمعالجتها0

جمعية حماية حقوق الانسان في سورية

                                                                                         

"إن الطفل كي تترعرع شخصيته ترعرعا كاملا ومتناسقا ينبغي أن ينشأ في بيئة عائلية في جو من السعادة والمحبة والتفاهم 00وينبغي إعداد الطفل إعدادا كاملا ليحيا حياة فردية في المجتمع وتربيته بروح المثل العليا المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة وخصوصا بروح السلم والكرامة والتسامح والحرية والمساواة والإخاء"

                                                                  من ديباجة اتفاقية حقوق الطفل

من أجل غدٍ أفضل لأطفالنا000

 

رغم ما يبدو على المجتمع السوري من الشيخوخة والهرم على صعيد الحراك الاجتماعي والقدرة على العطاء ، فإنه يصنف ضمن المجتمعات الفتية، حيث تبلغ نسبة المواطنين دون سن الخامسة عشر 40،2 % وفقا للإحصاءات السورية الرسمية لعام 2002 0

ورغم تصديق سورية على اتفاقية حقوق الطفل منذ عام 1993 وعلى العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فإن العديد من مواد هذه الاتفاقيات لا تلقى تطبيقا على أرض الواقع0

وإن كانت أوضاع الطفل السوري تتطلب الكثير من الدراسات المعمقة والجادة على مختلف المستويات إلا أننا نشير إلى عدد من النقاط الرئيسية التالية:

1-  مازال الطفل السوري لا يجد البيئة التعليمية المناسبة التي تضمن تنمية شخصيته ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية فضلا عن التدخل في تكوين آرائه ، وذلك من خلال إلزامية انتسابه إلى منظمة "طلائع البعث" ومن بعدها "منظمة شبيبة الثورة" ، اللتان تعملان على تشكيل فكر الطفل بشكل نمطي بعيدا عن مناخات الحرية الفكرية  المطلوبة0 إن تنشئة الجيل بأفكار مقولبة ومعدة مسبقا من شأنه أن يقضي على حرية الإبداع والعطاء لهذا الجيل، وليس تردي الأوضاع الفكرية والعلمية لدينا على مدى العقدين الماضيين إلا دليل على نتائج الثقافة الملقنة والمناخ التربوي المنغلق0

2-  في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية المستمر ، تتفاقم مشكلة تسرب الأطفال من المدارس مما يؤدي إلى تزايد نسبة الأمية في المجتمع، حيث يتجه هؤلاء الأطفال إلى العمل وخاصة في الأعمال الهامشية كباعة متجولين وما شابه 0 فقد بلغت نسبة الأطفال العاملين ما بين 10-17 سنة 17% من إجمالي عدد الأطفال بما يساوي 621 ألف طفل0 إن مشاكل عمالة الأطفال والتسرب من المدارس ما هي إلا انعكاس للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في سورية، ومعالجة أوضاع الأطفال تتطلب معالجة شاملة على كافة الأصعدة مرورا بالإصلاح الاقتصادي والتشريعي00

3-  مازال آلاف الأطفال الأكراد السوريين محرومين من الحصول على جنسيتهم السورية والأوراق الثبوتية الخاصة بهم وذلك خلافا للقوانين الوطنية والدولية كافة 0

  من غير المعقول أن يبقى الآلاف من أطفالنا مجردين من هوياتهم وجنسياتهم السورية مما يضعف من ارتباطهم بوطنهم، ولا بد من إيجاد حل عاجل وعادل لقضية الأطفال الأكراد بعيدا عن أية اعتبارات أخرى0

     4 - لا ننسى مئات الأطفال الذين حرموا من رؤية آبائهم الذين اعتقلوا على خلفية ممارستهم لحقهم في التعبير والمشاركة في الحياة العامة، ونخص منهم أولئك الذين اعتقلوا منذ سنوات ولم يعرف حتى اللحظة شيء عن مصيرهم أو التهم الموجهة إليهم ، إن حرمان الطفل من العيش في كنف والديه وجعله ينمو في جو من الخوف وعدم الاطمئنان ينافي أبسط حقوق الطفل التي ترعاها القوانين الوطنية و الدولية0

وأخيرا نتوجه بخالص المحبة إلى أطفالنا في فلسطين والعراق الذين يرزحون وعائلاتهم تحت ظل الاحتلال والذين تجعل ظروفهم من إحياء اليوم العالمي للطفل، مجرد إحياء لمعاناة هؤلاء الأطفال والظلم الواقع عليهم وهو ما يتحمل مسؤوليته المجتمع الدولي بأسره0

 

25/6/2003 يوم الطفل العالمي                           جمعية حقوق الإنسان في سورية

 

تتمة المنشور ص  32

الاقتصاد السوري إلى أين  ؟

يعاني الاقتصاد السوري من معوقات طويلة الأمد وأخرى قصيرة الأمد. وتتشكل المعوقات طويلة الأمد من البيئة التشريعية والتنظيمية التي أقيمت خلال نظام التخطيط المركزي والتي لا زالت تحكم القطاع الخاص وتُقيِّد قدرته على المنافسة، ومن الجمود في الهياكل والمؤسسات الإنتاجية في القطاع العام، ومن ضعف وتفتت القطاع الخاص نتيجة تحجيم دوره على مدى ثلاثين سنة ونتيجة الحماية الجمركية العالية للصناعة التي تشكل امتداداً لاستراتيجية إحلال الواردات، ومن تدني المهارات والقدرات التكنولوجية المحلية، ومن ضعف موارد البلاد من القطع الأجنبي خارج قطاع النفط. وأدت هذه المعوقات إلى تدني كل من معدلات الاستثمار وإنتاجية الاستثمار، وخاصة في السنوات الأخيرة. أما في السنوات التي تحققت فيها معدلات نمو عالية فقد كان ذلك بدعم رئيسي من المساعدات الخارجية (التي بلغت حوالي مليار دولار في السنة في العامين 1979 و1980 مثلاً) أو بفضل أموال النفط الجديد في السنوات ال13 الماضية. وهذا الاعتماد، على المساعدات الخارجية تارة وعلى أموال النفط تارةً أخرى، يجعل من عملية النمو في الاقتصاد السوري عملية هشة، متأثرة بعوامل غير مستديمة، ما يتطلب القيام بإصلاح عميق في بنية الاقتصاد، يجعل النمو معتمداً على الاستثمار المتنامي في القطاعات الاقتصادية الحيوية، وعلى الابتكار التقني المستمر في كافة القطاعات. أما مشكلة الاقتصاد على المدى القصير فهي مشكلة الركود الاقتصادي الحالي، الناتج بالأساس عن ضعف الاستثمار الخاص، والذي يعود في اعتقادي، ليس إلى أزمة سيولة، بقدر ما يعود إلى أزمة ثقة ناتجة عن عدم الوضوح بالنسبة للتوجه الاقتصادي الحقيقي للدولة وغياب برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل والهادف إلى لبرلة الاقتصاد الوطني. فأين موقع الإصلاح الاقتصادي في سوريا؟

تعاني قضية الإصلاح من مشكلتين : مشكلة في الإصلاح نفسه، ومشكلة في التطبيق. وتعود المشكلتان في الأساس إلى ضعف القدرة المؤسساتية على تخطيط الإصلاح كما على تنفيذه. ويتمثل هذا الضعف بالعناصر التالية:  أ- غياب الفكر الاقتصادي الواضح وغياب البرنامج الشامل.

ب- المركزية الشديدة وتداخل الصلاحيات في أجهزة الحكومة، كما بين الحزب والحكومة، وكذلك البيروقراطية المعقدة التي هي صنيعة نظام التخطيط المركزي، إلى جانب وجود المؤسسات والهيئات والمنظمات الحكومية والحزبية والنقابية والأمنية العديدة ذات الأدوار التدخلية. وهذا كله يؤخر صدور القرارات اللازمة كما يعرقل تطبيق ما صدر منها.
ج- المصالح الخاصة التي تختبئ تحت عباءة
الحفاظ على اللحمة الوطنية أو الخصوصية السورية أو المعركة مع العدو لعرقلة أو لمنع التغيير حفاظاً على هذه المصالح المكتسبة.
د- ضعف المعرفة بنظام السوق وبآلياته، وضعف الإطلاع على التغيرات الاقتصادية العالمية الجديدة وإدراك حقيقتها ومغزاها وكيفية التعامل معها.
في المحصلة، فإن التدابير الإصلاحية التي تمت خلال الخمس عشرة سنة الماضية لم تنفذ بعد إلى عمق المشاكل الحقيقية التي يواجهها الاقتصاد السوري التي أشرنا إليها. كما تبقى هذه التدابير الإصلاحية التي تمت دون مستوى التحديات الخارجية، تحديات العولمة والشراكات الاقتصادية الإقليمية وتزايد الفجوة الرقمية، ومواجهة التحدي الصهيوني الذي يزداد شراسة من حيث قدراته التكنولوجية والمعرفية، فضلاً عن قدراته العسكرية. وإذا أراد الاقتصاد السوري مواجهة تحدياته الداخلية والخارجية وتوظيف بطالته المتزايدة التي يغذيها وفود حوالى 300 ألف فرد إلى سوق العمل سنوياً، فلا بد من أن يُقدِم على عملية إصلاح عميق وشامل وسريع، وعلى تنمية اقتصادية وتكنولوجية شاملة، تحقق نمواً اقتصادياً مستديماً بحدود 8-7 في المئة بالسنة على الأقل. وعملية الإصلاح هذه لا يمكن أن تكون إصلاحاً تقليدياً يستند إلى التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي وإلى صيغة " إجماع واشنطن " (التي سادت في الثمانينات وأوائل التسعينات)، لا بل إن الإصلاح الذي تحتاج إليه سوريا اليوم يجب أن يكون ذا قاعدة عريضة، متضمناً، في ما يتضمن، عملية إعادة هيكلة تنظيمية وتشريعية ومؤسساتية، وإعادة هيكلة للوحدات الإنتاجية العاملة في القطاعين الخاص والعام، ورفع القدرات البشرية والتكنولوجية المحلية، وإصلاح جهاز الخدمة المدنية وتعزيز كل من مؤسسات المجتمع المدني وخطوات الاندماج الاقتصادي العربي. والجدير بالذكر أن هذه حزمة متكاملة ومترابطة الحلقات ولا يمكن الاستغناء عن أي من مكوناتها. 

 

إن شعار )التطوير والتحديث(  الذي ترفعه سوريا اليوم يتماشى مع نهج الإصلاح البطيء الذي تسير عليه، لكنه لا يتماشى مع التحديات ومتطلبات التعامل معها التي أشرنا إليها والتي تتطلب شعارا كشعار )القفزة الكبيرة إلى الأمام( الذي طرحته الصين في أواخر الستينات لتهتدي به وهي تسرع الخطى للحاق بالعالم الصناعي. المطلوب بداية، الإقرار بأننا في أزمة ولسنا في مجرد مشكلة، والأزمة تتمثل في تدني معدلات النمو وتزايد البطالة، وتدني القدرة على المنافسة في اقتصاد مفتوح، ما يعرضنا إلى خطر التهميش. والمطلوب ثانياً، اتخاذ مجموعة من الخطوات الأساسية حتى تستطيع سوريا الانطلاق من عقالها. أولى هذه الخطوات كسر الجمود الفكري القائم حالياً، من خلال قيام الحزب والدولة بمبادرة يوضحان فيها رؤيتهما بشأن هوية الاقتصاد السوري المستقبلي، ويقومان بصياغة إطار فكري واقتصادي جديد. ولا بد لمثل هذا الفكر الجديد من أن يقوم على التبني الصريح لنظام السوق (الذي أثبت برغم نواقصه أنه يؤدي إلى استخدام أفضل للموارد من نظام  الأوامر الإدارية) ولأولوية القطاع الخاص في العمل الإنتاجي، معتبرين أن مبدأ الملكية الخاصة حق وليس منحة  ،   ومتجاوزين مبدأ (  التعددية الاقتصادية ) ومنتقلين إلى مفهوم جديد مبني على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، شراكة يضطلع فيها القطاع الخاص بالدور الريادي في النشاط الإنتاجي، لا دور الرديف ، ويضطلع فيها القطاع العام بالدور الريادي في عملية التنمية الاجتماعية.                                                                                                                                              
وفي اعتقادي أن هذه خطوة لا بد منها لتخطي عقدة رئيسية تعيق سوريا من الانطلاق في إصلاحها الاقتصادي. وما لم يتم تخطي هذه العقدة فستظل البرامج والقرارات الاقتصادية متخبطة، وسيظل يتعرض تطبيقها للتردد وللبطء، ولن تستطيع سوريا جذب أي من الاستثمار الوطني الخاص أو الاستثمار العربي والأجنبي على نطاق واسع.  كما في اعتقادي أن من شأن تبني الدور الريادي للقطاع الخاص في العملية الإنتاجية أن يؤدي إلى إطلاق روح التجديد والريادية والابتكار في القطاع الخاص، وإلى وقف هجرة الخريجين من الشباب إلى البلدان الأخرى، بحثاً عن الدخل الجيد وعن النجاح وعن تحقيق الذات. ومن شأن قيام قطاع خاص نشط وديناميكي أن يوفر فرص عمل قادرة على استيعاب العمالة الفائضة الموجودة حاليا في مؤسسات القطاع العام، بما يمّكن الأخيرة من التخلص من مشكلة أساسية فيها وتمكينها بنفس الوقت من رفع أجور العمالة لديها ورفع إنتاجيتها. أي أن تنشيط القطاع الخاص يساهم مساهمة فعالة في عملية إصلاح

القطاع العام .                         
بالنسبة إلى دور الدولة، فإن الإطار النظري الجديد يحتاج في اعتقادي أن يحدد دوراً جديداً لها، لا يكتفي بدورها التقليدي في نظام السوق (المرتكز على ضمان الأطر القانونية والمؤسساتية لعمل السوق على وجه أفضل وتعزيز المنافسة فيه)، بل ينتقل إلى أفق أبعد، يتضمن تحمل الدولة دور التخطيط (التأشيري)، والتركيز

على القضايا الاجتماعية وقضايا التنمية البشرية والتكنولوجية، وعلى تحديد فرص الاستفادة من العولمة وأساليب التصدي لتهديداتها وغيرها من الأدوار. هذا الدور للدولة لا بد منه في سوريا كما في عالمنا النامي بشكل عام، ومخطئ من يظن أن الليبرالية الاقتصادية ونظام السوق وحدهما يمكن أن يأخذا سوريا أو أي دولة نامية أخرى إلى بر الأمان من دون دور للدولة، على أن يكون هذا الدور خارج العملية الإنتاجية ومنصباً بدلاً عن ذلك على الجوانب التي أشرنا إليها أعلاه. 
ثانياً: وضع تصور لمستقبل سوريا الاقتصادي في المنطقة في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها سابقاً، بما فيها ظاهرة العولمة والشراكات الاقتصادية المقبلة سوريا عليها، والخطر الصهيوني في المنطقة، ثم ترجمة هذا التصور إلى خطة شاملة طويلة الأجل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تختلف عن الخطة التي تم اعتمادها مؤخراً والتي قامت على استمرار النهج الاقتصادي الحالي. ويجب أن تركز الخطة المقترحة على كل من النمو ونوعية النمو، وعلى ما يمكن أن تختص به سوريا في المنطقة من سلع وخدمات في ظل الشراكات الاقتصادية الجديدة، وعلى تطوير التعليم وتنمية القدرات البشرية والتكنولوجية المحلية، وعلى العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر. كما علينا، ونحن نسعى إلى تحقيق معدلات النمو العالية، أن نضع نصب أعيننا الدخول في الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الرقمي من أوسع أبوابه، وأن نسعى ونخطط للخروج من العالم الثالث خلال فترة زمنية معينة، مثلما فعلت من قبلنا دول شرقي آسيا ومثلما تفعل الآن دول أوروبا الشرقية و الوسطى، وليكن ذلك على مدى عشرين سنة مثلاً. لكن يجب أن نضع هذا هدفاً رئيسياً من أهدافنا. ويعني ذلك أن نسعى إلى أن نتعولم، فنأخذ بعناصر التكنولوجيا الحديثة ونرفع من شأن قدراتنا البشرية وندخل في صلب النظام الاقتصادي العالمي، تجارةً واستثماراً وتكنولوجيا. فالعولمة قدر لا بد منه، وعدم التعولم سيؤدي بنا إلى المزيد من التهميش دولياً، وإلى المزيد من الفقر قطرياً وإقليمياً، وسيؤدي بنا إلى الرضوخ للمشروع الصهيوني الهادف إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة. لكن علينا كذلك أن نتحصن ونحن ندخل في الاقتصاد العالمي، وأن يكون هذا التحصن من خلال اعتماد الجبهة العريضة من الإصلاحات والاجراءات التنموية والتكنولوجية التي أكدنا عليها.
ثالثاً : اعتماد برنامج إصلاح هيكلي ومؤسساتي شامل ومترابط، ليبرالي المنطلق، يرمي بوضوح إلى كل من زيادة معدلات الاستثمار وزيادة إنتاجية هذا الاستثمار، ضمن إطار زمني محدد، وتسلسل عقلاني للتدابير والإجراءات والسياسات المالية والنقدية والتعديلات الهيكلية والمؤسساتية المتضمنة في هذا البرنامج. ومن الضروري أن يوضع هذا البرنامج بقناعة وبمبادرة من عندنا، لا استجابة لضغوط الشراكة الأوروبية المتوسطية أو لأي جهة خارجية أخرى، وأن يكون جوهر برنامج الإصلاح التحرير الداخلي من جهة، من خلال إقامة البيئة التشريعية والتنظيمية الميسرة لعمل قطاع الأعمال وإزالة العقبات الإدارية وغير الإدارية لكل من الاستثمار والإنتاج والتصدير، ورفع القدرات الذاتية للقطاع الإنتاجي نفسه من جهة أخرى، وإقامة المؤسسات المالية والفنية والاستشارية الداعمة لعمله. كما من الضروري أن يتضمن برنامج الإصلاح تجميد توسع القطاع العام الاقتصادي ضمن حدوده الحالية من جهة ، ووضع آلية جديدة لعمل شركاته القائمة من جهة أخرى، آلية مبنية على أساس المنافسة والربح (وبالتالي فصل الوظيفة الاجتماعية عن القطاع العام الاقتصادي ونقلها إلى القطاع العام الإداري)، ولا يجب التهرب من مشكلة العمالة الفائضة، كما لا يجب أن نظن أن تدوير العمالة الفائضة ضمن القطاع العام نفسه سيحل المشكلة. بل يجب مواجهة هذه المشكلة بكل صعوباتها وتبعاتها بشكل مباشر. كما ومن الضروري أن يأتي برنامج الإصلاح الاقتصادي هذا مرتبطاً بثلاثة برامج أخرى، أولها برنامج إصلاح اجتماعي تفصيلي وشامل يتضمن، بين أشياء أخرى، تدابير تمكّن من التعامل مع العواقب السلبية الأولية الناجمة عن الإصلاح وتمكن من احتواء تزايد البطالة والفقر، وثانيها خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وثالثها خطة للارتقاء بسويّة التعليم وبالقدرات البشرية وللارتقاء التكنولوجي.
رابعاً: يجب أن يكون الإصلاح الإداري جزءاً لا يتجزأ من الجهد المنصب على تحقيق عمليتي الإصلاح والتنمية المشار إليها، فنحن بحاجة إلى جهاز خدمة مدنية يضع خطط الإصلاح والتنمية بكفاءة، وينفذ هذه الخطط بكفاءة، ويتخذ القرار الاقتصادي بكفاءة في حينه. ولا تقل أهمية الإصلاح الإداري المطلوب عن أهمية الإصلاح الاقتصادي، كما أنه لا يقل عنه صعوبة. ولا شك في أن برنامج الإصلاح الإداري يجب أن يتضمن تهيئة الكوادر البشرية اللازمة وتوصيف الوظائف والخروج من المركزية الشديدة، ورفع أجور العاملين في القطاع العام. ولكن بنفس الوقت لا يمكن لأي خطوات من هذا النوع أن تكون فعالة إذا لم يتم فصل "الإدارة" عن "السياسة" في العمل الحكومي، والنظر إلى الخدمة المدنية كعمل تقني بحت، لا يجوز "للاعتبارات الحزبية" أو الوساطات أن تتدخل فيه، سواء في التعيين أو في تسيير شؤونه اليومية. ولا بد في هذا المضمار من إقامة علاقة جديدة بين الحزب والدولة. أما استمرار تشابك الصلاحيات والأدوار بين الطرفين فسيظل يعيق العمل الإداري وسيظل يشل القدرة على اتخاذ القرار الاقتصادي بالسرعة اللازمة.
خامساً:
يجب أن تتضمن عملية الإصلاح والتنمية بالضرورة، السعي إلى تفعيل مؤسسات المجتمع المدني وتنشيط دورها، إلى جانب دور الحكومة في عملية الإصلاح والتنمية، وفي التصدي للفرص، كما للتحديات المتدفقة مع موجات العولمة. نحن اليوم أحوج ما نكون إلى إحياء هذه المؤسسات وإلى إدخال مبادئ الإدارة الرشيدة  ومفاهيم الشفافية وسيادة القانون إلى مفرداتنا وإلى إشراك المجتمع بأكمله في عملية التنمية. ويجب أن يكون إحياء مؤسسات المجتمع المدني وتعميق المفاهيم المشار إليها مقدمةً للإصلاح السياسي الذي لا بد وأن يكون آتياً في المستقبل، فالإصلاح الاقتصادي يفرز قوى جديدة، فاعلة في المجتمع، لا بد وأن تشارك في نهاية المطاف في العملية السياسية.
سادساً: يجب أن تترافق جهود الإصلاح الاقتصادي والتنمية مع الجهود لتعزيز الاندماج الاقتصادي العربي، أولاً بسبب الأهمية التنموية لهذا الاندماج وثانياً لأهمية هذا الاندماج في مواجهة تحديات العولمة والتكتلات الاقتصادية الجديدة، العالمية منها والإقليمية. فمهما قامت سوريا (أو أية دولة عربية أخرى) من إصلاح وتنمية بمفردها، فهي لن تستطيع أن تواجه تحديات العولمة والتكنولوجيا الحديثة والفجوة الرقمية، إلا من خلال إنجاح مشروع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى أولاً، والانتقال بهذا المشروع بعد ذلك إلى إقامة السوق العربية المشتركة. في نهاية هذه المقالة نقول وبصراحة إن عقد التسعينيات كان عقداً ضائعاً بالنسبة للإصلاح الاقتصادي في سوريا التي لا تستطيع أن تضيع عقداً آخرَ، بل ولا حتى نصف عقد من الزمن. وما على المتباهين بالتدرج السوري للإصلاح، الذي جنّب البلاد الهزات، كما يقولون، إلا أن يتذكروا التدني الذي يتم في دخل الفرد في سوريا الذي أشرنا إليه، والتزايد في معدلات البطالة (الذي يصل إلى حوالى 20 في المئة) وتزايد هجرة الشباب، فضلاً عن استمرار انحدار موقع سوريا في سلم التنمية العالمي. ان النداءات الداعية إلى التدرج والتروي والحذر، والنداءات التي ترفع شعار "الاستقرار قبل الإصلاح" وغير ذلك من الشعارات، تخفي في معظمها عدم رغبة حقيقية في الإصلاح. وفي اعتقادي أن الحذر المتطرف أكثر ضرراً من السرعة المفرطة، خصوصاً في ظل الموجة المتصاعدة للعولمة والتقدم العالمي الحاصل في تكنولوجيا المعلومات والذي يهدد غير القادرين على مواكبته بالمزيد من التهميش. ومن جهة أخرى فإن من شأن البطالة المتزايدة في الاقتصاد السوري أن تهدد الاستقرار نفسه الذي يخشون عليه، إذا لم يتم التعامل معها بالسرعة اللازمة من خلال الإصلاح الشامل والعميق.