الموقف الديمقراطي

نشرة يصدرها التجمع الوطني الديمقراطي في سورية

 

العدد 82 ايار2003 -15 ل.س

 

محتويات العدد:

1-    الحرب المفتوحة .............................. 1

2-    سورية بين التحديات والتهديدات .............. 9

3-    العراق بين الاحتلال الأمريكي والتخاذل العربي 16

4-    الوضع الفلسطيني والتحديات الراهنة ........ 22

5-    حتى يتوقف مسلسل الهزائم ................. 32

 

 

الحـرب المفـتوحـة

 

 

1 - انتهت حرب العدوان التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، باحتلال هذا البلد. بذلك تكون الولايات المتحدة قد دفعت الأمور في المنطقة العربية، والشرق الأوسط، والعالم، إلى مرحلة جديدة لمّا تتضح معالمها بعد.

وإن كانت مقدماتها لا تشير إلا إلى الخراب والفوضى. لقد أصبح واضحاً أن القاعدة التي تقوم عليها المرحلة الجديدة، إنما هي القوة الأمريكية العارية، والإرادة الأمريكية، التي تعمل لإلغاء الإرادات الأخرى أو إخضاعها. بهذا العدوان انتهت مرحلة من تاريخ العالم تتحدد بداياتها بنهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة كتعبير عن توازن القوى العالمي الذي نشأ بعد هذه الحرب، وكتعبير أيضاً، عن إرادة مجتمع الدول في إبعاد الحرب كوسيلة لحل الخلافات بين الدول، وفي الجنوح إلى السلم وإلى التفاوض والقبول بالتسويات عبر قرارات الهيئة الدولية المفروض بها الاستناد إلى القانون الدولي إلى هذا الحد أو ذاك.

العدوان على العراق هو نقطة الانعطاف في الوضع العالمي المعاصر. قبل ذلك هناك قرابة ستة عقود خضعت التصرفات الدولية خلالها إلى حدّ كبير لقرارات الهيئة الدولية. مع هذا العدوان، تبدأ المرحلة الجديدة بضرب الولايات المتحدة القانون الدولي عرض الحائط وتجاهلها للأمم المتحدة، أي للشرعية الدولية.

تشير الحرب العدوانية على العراق إلى التحلل المتزايد لهذه الدولة من مبادئ القانون الدولي. ما سمي بحرب "تحرير الكويت" جرت تغطيته بقرارات من الأمم المتحدة، وبمشاركة (وإن رمزية ولكن ضرورية للتغطية) لعدد من الجيوش العربية، والعدوان الأمريكي على أفغانستان تمت تغطيته كذلك بقرارات دولية. في العراق لم تعد ضرورة لذلك. ولذلك يشكل هذا العدوان  نقطة الانعطاف في الواقع العالمي، ومقدمة لمرحلة جديدة، تشكل الحروب العدوانية الأمريكية سمة من سماتها.

تبدو السياسة العدوانية الأمريكية كرد فعل على أحداث الحادي عشر من أيلول  2001. وقد سوق الإعلام الأمريكي غزو أفغانستان في هذا الإطار. لكن الحقيقة أن هذه السياسة مرسومة قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، التي لم تكن إلا المناسبة لإعلانها ولوضعها موضع التطبيق. إنها تستند إلى القاعدة التي تقول أن التغير العميق في موازين القوى يتيح للقوى السائدة الاستيلاء على مناطق نفوذ القوى الآفلة وعلى مناطق المواد الأولية التي كانت خارج السيطرة، أي (بلغة عشرينيات القرن الماضي) الاستيلاء على المستعمرات وأشباه المستعمرات.

لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة المرتبطة به إلى تفرد الولايات المتحدة بموقع الدولة العظمى مما أطلق يديها في الاستيلاء على مناطق جديدة في العالم أو بسط نفوذها عليها والإمساك بمصادر الطاقة الأولية وخصوصاً النفط بوصفه مفتاح التحكم بالصناعة العالمية وبالتالي بمصائر التطور للدول الرأسمالية الكبرى المنافسة للولايات المتحدة.

في أسباب الحربين العالميتين الأولى والثانية يكمن صراع الدول على المستعمرات وعلى مناطق النفوذ والمواقع الاستراتيجية ومكامن المواد الأولية والأسواق. والأسباب ذاتها فاعلة في الوقت الحاضر، وإن تغير اللاعبون، وانتهت الأمور لصالح اللاعب الأمريكي. يقول المثل "البدء بالطعام هو الذي يفتح الشهية". بعد هذا النصر السهل في العراق، انفتحت شهية الإمبرياليين الأمريكيين لالتهام مناطق نفوذ جديدة، ورسم الخرائط لمناطق جديدة.

وبعد أن زالت الكوابح بوجه مجرمي الحرب الأمريكان، لم يتورعوا عن ارتكاب أبشع أنواع المجازر واستخدام أفظع أنواع الأسلحة ذات القوة التدميرية الهائلة، التي ألحقت الخراب بالعراق وكلفته آلاف الضحايا من مدنيين وعسكريين، ولم يترددوا عن إطلاق عصابات اللصوص والمجرمين لإحداث الفوضى في البلاد، وتدمير ممتلكات الشعب العراقي ومؤسساته. لكن هذا الاضطراب الذي تثيره الولايات المتحدة في العالم لا يبقى بدون جواب. لا نتحدث عن ردود الفعل القائمة أو المتوقعة من الضحايا المباشرين للعدوان ، كما هو الحال في أفغانستان والعراق وحسب، بل عن موجة الرفض العالمية للعدوان على العراق، التي شملت ملايين الناس في طول العالم وعرضه ، التي هي تعبير واضح عن الوعي بوحدة المصير الإنساني وبضرورة التضامن بين الشعوب لصيانة السلم والتصدي لعدوان الدوائر الإمبريالية ، والتي أثرت إلى هذا الحدّ أو ذاك في حكومات الكثير من الدول، والتي من المأمول والمتوقع أن تتطور ليصبح بإمكانها التصدي للمغامرات الجديدة للإمبريالية الأمريكية. وإذا كان بعض الدول الكبرى قد اضطرته الأخطار التي تهددت مصالحه لمناوأة الولايات المتحدة، ثم بعد انهيار النظام العراقي، إلى البحث عن طرق لملاقاتها وعن صيغ لحلول وسط معها، فالتناقضات واختلاف المصالح بين هذه الدول والولايات المتحدة سوف تنمو وتشتد مع كل مغامرة جديدة للإمبريالية الأمريكية. على أن موجة الاحتجاج العالمية لم تصل إلى المستوى القادر على كبح العدوان الأمريكي الحالي أو الحيلولة دون عدوانات جديدة متوقعة، مما يشير إلى المخاطر المتنامية على حريات الشعوب وخصوصاً في المشرق العربي والشرق الأوسط، موضوع الهجمة الأمريكية الحالية.

2 – هل هناك كلمات مناسبة قادرة على توصيف وضع النظام العربي؟ قد تكون كلمة الفضيحة هي الكلمة الأقرب إلى واقع الحال. لقد عصر الألم والغضب الدفين قلوب الكثرة الكاثرة من العرب من أقصى بلادهم إلى أقصاها الآخر من السياسة العربية. وهذا الألم وهذا الغضب لن يبقيا ألماً وغضباً. ولن يكون الجزاء إلا من جنس العمل. فمن يطعن الأمة ستطعنه الأمة. لقد سقط النظام العربي سقوطاً لا نهوض له بعده. لكن وفاة هذا النظام لن يعلنها أحد من أربابه، ولن تدفن جثة هذا النظام التي تتفسخ إلى أن يقيّض الله لها من يواريها تحت التراب. ظهر التناقض صارخاً بين دول كفرنسا وألمانيا وروسيا وبين دول عربية مهددة في أمنها القومي، بل منتهكة في أمنها القومي، بين دول أجنبية تعلن انحيازها (ولو لفظياً) إلى قوة الحق ضد حق القوة (والتعبير للمستشار الألماني) وبين دول لحست تواقيعها على ميثاق الدفاع المشترك وعلى مئات الارتباطات وتنكرت للتضامن الإنساني في حدّه الأدنى (ولا نقول التضامن القومي)، بين دول تنهض شعوبها ضد العدوان وبين دول عربية تقمع شعوبها وتمنعها حتى من إبداء الرأي وتضع أراضيها تحت تصرف المعتدين وتحولها إلى منصات لانطلاق العدوان. بذلك انكشف الكثير من النظم المسماة عربية وظهر الطابع الحقيقي لها وكونه لا يعبر عن المجتمعات المحكومة وإنما عن مصالح الخارج، مصالح العدو، وعن مصالح الفئات المرتبطة بهذا الخارج.

لقد سار النظام العربي بقدميه على هذه الطريق. نذّكر باحتلال بيروت 1982 ونذّكر بحرب الخليج الأولى التي سميت بحرب "تحرير الكويت"، والتي انتهت بوضع منابع النفط في الجزيرة العربية بحراسة القوات الأمريكية. أما الحرب الحالية فلم تضع منابع النفط العربية كلها تحت الإشراف العسكري الأمريكي وحسب، بل جعلت الجيوش الأمريكية تتربع فوق هذه الأرض العربية، لكي تقوم السياسة الأمريكية، بصياغة نظام إقليمي جديد يحل محل النظام العربي المنهار، نظام إقليمي تلعب فيه إسرائيل دور المراقب والوكيل العام للسيد الأمريكي.

3 – الحرب، أية حرب، هي كشف حساب شامل لمتانة وتماسك مجتمع ما, لإنجازاته وإخفاقاته، لأبنيته القوية كما لأبنيته الضعيفة، للأسس السليمة والصحيحة للبناء، كما للأسس الضعيفة والمتهافتة. ليس من تناسب في أيّة مواجهة بين العراق والولايات المتحدة (حتى في المواجهة الإعلامية، التفوق من نصيب الولايات المتحدة بسبب سيطرتها على وسائل الإعلام). الولايات المتحدة تملك أكبر جيش في العالم يتصرف بقوة نارية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. ميزانيتها العسكرية العامة السنوية (حوالي 400 مليار دولار) تفوق مجموع ميزانيات الدول السبعة عشرة التي تليها في القوة بما في ذلك روسيا والصين وإنكلترا وفرنسا. التكنولوجيا العسكرية التي تملكها متقدمة على جميع الدول وهذه التكنولوجيا مدعومة بأكبر صناعة وأعظم اقتصاد في العالم، ناهيك عن ضخامة الولايات المتحدة أرضاً وسكاناً.

العراق بلد أنهكته المغامرات العسكرية وسياسات النظام. حرب إيران، حرب الخليج الأولى. الحرب على الأكراد في الشمال. ثم الحصار  القاسي الذي دام إثنى عشر عاماً. وقبل كل ذلك وفوق كل ذلك النظام الدكتاتوري الفاشي الذي أناخ بكاهله على البلاد خمسة وثلاثين عاماً, يضطهد الشعب ويسفح دماء أبناءه ويبدد الثروات.

ليس غريباً إذن، أن ينهزم في مواجهة عسكرية نظام من هذا النوع قاعدته ضيقة، وبينه وبين شعبه وادٍ من الدماء والآلام. كان ينبغي البحث عن مخارج أخرى غير مخرج الحرب، على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت تدفع الأمور نحو هذا المخرج دفعاً حثيثاً. ومع ذلك فالمخارج الأخرى كانت ممكنة لو توفرت جهود عراقية , بالدرجة الأولى, واكبت وحرضت وساعدت الجهود الدولية, بهدف تعطيل مخططات الدوائر العاملة للحرب في الولايات المتحدة. كان المطلوب من النظام انقلاباً على الذات والمصالح الضيقة, أي جهوداً كبرى تنصّب, من جهة, باتجاه إزالة الخلل في الداخل العراقي عبر المصالحة الوطنية، وتصفية الدكتاتورية والانفراد بالسلطة وإطلاق الحريات، وكذلك جهوداً جدية باتجاه الخارج تلغي ذرائع الحرب على العراق. حال دون ذلك بنية النظام العراقي المتكلسة والجهل والغرور وعدم إدراك الواقع.

ومع ذلك فإن المقاومة الباسلة في الأيام الأولى في الجنوب العراقي أنعشت الآمال, في طول البلاد العربية وعرضها, بإمكان إلحاق خسائر فادحة بالمعتدين الأمريكيين والبريطانيين. واخذ آلاف المتطوعين من أقطار عربية مختلفة طريقهم إلى العراق للمشاركة في معركة الدفاع عن العراق، الأرض والشعب. كان ممكناً لهذه الظاهرة العظيمة أن تكون أضخم وأكبر, لو كانت سياسة النظام العراقي على غير ما هي عليه، ولو لم يحدث ذلك الانهيار المريع على أبواب بغداد.

خلال العدوان، استخدمت الولايات المتحدة أسلحة دمار شامل ممنوعة دولياً، ليس بهدف حسم الحرب بأسرع وقت ممكن وحسب، بل أيضاً، وأولاً، لإلحاق أكبر ما يمكن من الأذى بالعراقيين، وكذلك لتوجيه أنظار الدول الكبرى الأخرى (روسيا والصين وفرنسا وألمانيا) إلى ما في الترسانة الأمريكية من أسلحة متطورة ممكن استعمالها في أمكنة أخرى، لقد فجرت الولايات المتحدة في العراق ما يعادل عشرات القنابل الذرية مثل تلك التي ألقتها على هيروشيما. وظهر الهدف الحقيقي من الحرب في الأعمال الإجرامية التي حدثت بإشراف جيش الاحتلال الأمريكي من تدمير للجامعات والمتاحف ومراكز الوثائق، أي الأعمال التي هدفت لتدمير أسس الدولة العراقية المستقلة القادرة على الحفاظ على وحدة العراق. بكلمة  ,تعمل الولايات المتحدة من جهة أولى لخلق الشروط لنسف وحدة العراق وتقسيمه وتأسيس كيانات متناحرة فيه, ومن جهة أخرى خلق الشروط والمبررات لبقاء قوات الاحتلال، لحفظ "أمنه" المهدد من داخله . وبذلك تستعيد الولايات المتحدة ذكرى هولاكو عام 1258 وتقوم بأسوأ مما قام به, وتتابع السير على سنّة الاستعماريين في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

4- الانتصار السهل للأمريكيين المهدد بتعقيدات الوضع العراقي والصعوبات المتزايدة أمام صياغة أوضاع جديدة مناسبة للولايات المتحدة، وكذلك الاحتمالات القوية والإمكانات الكبيرة لولادة ونمو مقاومة شعبية ضد قوات الاحتلال، ذلكم ما يجعل المعتدين الأمريكيين يتجهون للإسراع بتنفيذ أجزاء أخرى من مشروعهم في "إعادة تشكيل الشرق الأوسط بصورة جذرية" (بحسب تعبير كولن باول وزير الخارجية الأمريكية)، مستفيدين من وجود مئات الآلاف من قوات الاحتلال في قلب المشرق العربي. إذاً لن تكون الحرب (خصوصاً إذا لم تكن كبيرة) مستبعدة من الوسائل الأمريكية، وإن كان من المنطقي أن يحاولوا تحقيق أهدافهم، في مرحلة أولى، بغير وسيلة الحرب , وأن يعطوا أنفسهم فرصة التمكن من العراق . يتجه الأمريكيون الآن لإيجاد حل للقضية الفلسطينية ولعقد صلح بين إسرائيل وبين ما تبقى من العرب بما يتناسب وموازين القوى الجديدة بعد احتلال العراق، وبما يضمن تحقيق أقصى ما يمكن من الأهداف الصهيونية. لقد عارضت الولايات المتحدة، طوال خمسة وثلاثين عاماً، أي منذ إصدار مجلس الأمن لقراره ذي الرقم 242، عارضت كل الحلول المعقولة بما فيها تلك التي حملت توقيعها لأن حلاً معقولاً للمسألة وتصفية لأثار عدوان 1967 كان يمكن أن يعطيا المجتمعات العربية فرصة استعادة القوى والبناء والتعمير، بينما سياسة معارضة الحلول التي سارت عليها الولايات المتحدة، تقود لإرهاق المجتمعات العربية واستنزاف خيراتها وقواها، إن من سباق التسلح أو من أنظمة الاستبداد والقهر التي غطت على استبدادها وفسادها بشعارات الصمود بوجه العدو والتصدي له والتوازن الاستراتيجي معه، بنما كانت ممارساتها لا تؤدي إلا إلى تدمير أسس الصمود والتصدي وإلغاء إمكانية أي توازن في القوى مع العدو, وإلا إلى قتل روح المقاومة، ناهيك عن نهب المجتمع وتفكيكه.

لذلك يبقى الشك قائماً حول جديّة تبني الولايات المتحدة لحل يلبي متطلبات الحد الأدنى للشعب الفلسطيني. فالممارسة الإسرائيلية خلال السنوات العشر الأخيرة، المدعومة كلياً من الولايات المتحدة، تتركز على التمكن من احتلال الأرض وتدمير شروط وجود الشعب الفلسطيني على أرضه (بالأحرى إمكان بناء دولة مستقلة له)، أي تحويل الضفة الغربية وغزة إلى بانتوستانات (مناطق عزل)، أو مستعمرات عاجزة عن التحول إلى دولة حقيقية، خاضعة كلياً للإرادة الإسرائيلية، تزود إسرائيل بقوى عمل رخيصة.

إن أيّة خطط جديدة لا تلتزم بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة تعبر عن حقه في تقرير المصير لن تفعل سوى تغذية الانقسام وربما الاقتتال في صفوف الفلسطينيين واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، ومتابعة العدوان على الفلسطينيين وعلى سورية. وما هي القيمة الحقيقية للخطط السياسية، في الوقت الذي يسقط فيه الفلسطينيون يومياً قتلى برصاص المحتلين الإسرائيليين، وفي الوقت الذي تهدم فيه البيوت الفلسطينية على رؤوس أصحابها بقنابل المحتلين، وفي الوقت الذي تحولت فيه الضفة الغربية وغزة إلى معسكري اعتقال كبيرين؟

5- تتغطى الأهداف الأمريكية الحقيقية بشعارات فضفاضة وغامضة وقابلة للتأويل مثل "مكافحة الإرهاب"، و"نزع أسلحة الدمار الشامل" والتي يمكن إدراج أي هدف آخر تحتها، وتبرير أي عمل بها. ولتحصين انتصارها في حربها العدوانية على العراق تعمل الولايات المتحدة على تركيز الضغط على الشعب الفلسطيني وسورية. بوجود قوات الاحتلال الأمريكية تحول العراق من عمق استراتيجي لسورية إلى مصدر جدي لتهديد أمنها. الخطر نفسه يهدد السعودية، ويهدد مصر الذي كان أمنها مرتبطاً دائماً بسورية (ومن ضمنها فلسطين) شمالاً وبالسودان جنوباً.

هذا الواقع يقرع أجراس الخطر بقوة. صحيح أن تهديد الأمن القومي لسورية ليس جديداً. لكن الخطر لم يكن أبداً بمثل هذه القوة وبمثل هذه الجدية. لا يجوز تكرار أخطاء النظام العراقي المنهار ولا يجوز التمسك بالأوهام. في حرب الخليج الأولى، وخلافاً لكل الوقائع ظل النظام العراقي متمسكاً بأوهامه من أن الحرب لن تقع وإن وقعت، فالنصر معقود لواؤه له، فيما سمي بـ "أم المعارك". وقبل العدوان الأخير ظل النظام العراقي يعاند الحقائق الواضحة من أن الحرب لن تقع، وإن وقعت فسينزل الهزيمة بالمعتدين. وبالمقابل يخطىء من يظن أن تلبية الطلبات الأمريكية سيدفع الأذى عن البلاد، ويعطل نوايا العدوان. ويخطىء كذلك من يظن أن عوامل القوة في البلاد تكمن في الجغرافيا والتاريخ. أو أن عدالة القضايا التي ندافع عنها أو المكانة الدولية التي نتمتع بها كافيتان أو قادرتان على إحباط نوايا العدوان. إن عامل القوة الأساسي في بلادنا وفي كل بلاد الدنيا، هو تماسك البنيان الداخلي، ووحدة المجتمع ومدى تمتعه بحريته وكرامته وحقوقه، الأمر الذي يستوجب إعادة نظر شاملة في الأوضاع السائدة. فتجربة العراق ما تزال ماثلة. لابدّ من دولة حق وقانون ولا بدّ من ضمان حريات الأفراد، ولا بدّ من البدء بإصلاح سياسي يؤسس للديمقراطية التي تنطلق من سيادة الشعب وسيادة القانون وسيادة الحرية. إن ما هو قائم، غير كافٍ للدفاع عن البلاد، لكي لا نقول أنه عاجز.

لقد توقفت الحرب العدوانية الأمريكية في العراق. لكن الحرب الأمريكية في المشرق العربي والشرق الأوسط لا تزال مفتوحة، تهدأ فترة، لتشتعل من جديد.

تنويه

يتناول العدد القادم من (أوراق ثقافية) محورين:

1-       العدوان الأمريكي على العراق

2-        الأحزاب والعمل السياسي

والقراء الكرام مدعوون للمشاركة، على أن تصل مساهماتهم قبل نهاية أيار.

مجلس الإعلام

 

 

سورية بين التحديات والتهديدات

الاهتمام الذي أولته الأوساط الثقافية والسياسية في سورية لخطاب القسم له سببان: أولهما صدوره عن موقع الرئاسة، وهو أعلى منصب سياسي في سوريا.

فهذه الأوساط لم تتعود سماع مفردات تشير، ولو من بعيد، إلى الحوار والرأي الآخر والديمقراطية، من أي مسؤول سياسي سوري على مدار ثلاثين عاماً. وثانيهما السياق الذي جاء فيه، حيث ثمة تغييرات تأخذ مداها على الصعيد العالمي باتجاه تعميم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، وعلى الصعيد الداخلي، تتزايد القناعة على مستوى السلطة السياسية بوصول النظام السياسي ونمط الحكم الذي ساد لمدة تقارب الأربعة عقود، إلى حالة من العقم وانسداد الآفاق، وترافُق هذه القناعة بإطلاق حملة مكافحة الفساد قبل الخطاب بوقت قليل، ووجود تقديرات إيجابية حول شخص الرئيس من بعض المتابعين لشؤون الوضع الداخلي، إضافة للآمال العامة التي انتعشت، مع وصوله إلى سدة الحكم، بقرب حدوث تغييرات جوهرية وإيجابية في الوضع الداخلي على المستويين السياسي والاقتصادي.

كل ذلك من شأنه أن يفسر ميل الكثيرين إلى اعتبار الخطاب فاصلاً بين عهدين، وبداية عهد جديد يمكن أن يبني دولة جديدة تعبِّر عن جميع مواطنيها.

اليوم أيضاً لا يمكن مقاربة أو التعامل مع، خطاب افتتاح الدور التشريعي الثامن لمجلس الشعب، دون رؤية السياق الذي يجيء فيه، ودون محاولة إجراء تقييم موضوعي لمسيرة ثلاث سنوات من عمر العهد، وإجراء مقارنة بين المنطلقات العمومية التي جاءت في خطاب القسم، وبين التحديدات الواضحة التي تجسدت في الخطاب الأخير. وهذا أمر طبيعي في التعامل مع النصوص، فالكلمات والجمل لا تكتسب قيمتها من حيث منطوقها وحسب، بل أيضاً من خلال اقترانها بجملة الظروف والأحداث التي تأتي فيها، ومن خلال مقاربتها أو تناغمها مع ما يحدث حقيقة على أرض الواقع.

مرت ثلاث سنوات بين الخطاب الأول والخطاب الأخير الذي ثبَّت فيه أسلوب الحكم وتوجهاته بوضوح. هذه السنوات كانت عامرة بالأحداث على صعيد الداخل السوري، تخللتها حالة من التجاذب والتنابذ بين الأطراف حول نمط أسلوب الحكم المناسب، إلا أن محصلتها النهائية كانت لصالح غلبة الخيار المحافظ والمتحكم بمقاليد السلطة والثروة في البلد، على حساب خيار الإصلاح والتغيير الذي كان مأمولاً، والذي أنصاره موجودون في الشارع وفي الأحزاب المعارضة وأوساط المثقفين وربما في بعض أوساط الحزب الحاكم.

مع خطاب القسم ساد شعور عام بأن مرحلة جديدة على وشك البدء بعد طول انتظار، عنوانها الانفتاح والحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مع الحفاظ على إرث الممانعة السورية تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وما يتعلق بالثوابت القومية. ما بدا كإرهاصات للتغيير، لم يتبعها ما يؤكدها. لقد جرى التراجع عن وجوب مكافحة الفساد، والتنازل عن مشروع الإصلاح لصالح "التطوير والتحديث" الذي بقي في حدود استصدار بعض القوانين الإدارية والتقنية التي لا تقدم ولا تؤخر في نهوض البلد، ولم يصدر قانون للأحزاب السياسية ولم يعدل قانون الانتخابات، ولم يسمح للأحزاب المعارضة بالعمل، بل على العكس أعيد زج عدد من المعارضين للنظام في السجون، ولم يسمح للصحافة بالانطلاق عدا تلك التي تسبِّح بحمد النظام والحزب الحاكم، ومنعت مؤسسات العمل المدني والمنظمات والجمعيات عن مزاولة عملها ونشاطها، عدا تلك التي تدور في فلك النظام والحزب الحاكم. ولم ينزح عن صدر المواطنين كابوس سيطرة الأجهزة الأمنية التي تجعل من التعاطي بأي أمر سياسي أو اجتماعي، أو حتى ثقافي، لا يدور في فلك النظام السائد جريمة تستحق العقاب تارة باستخدام العسف القانوني، وتارة أخرى بالعنف العاري.

كفاتحة للعهد الجديد، كان الخطاب الأول محوراً للاهتمام السياسي، بينما كانت التوجهات الأخيرة مجرد إعلان لانتصار الخيار المحافظ أي إبقاء كل شيء على ما كان عليه، خاصة أنها جاءت بعد "انتخابات نيابية" على الطريقة القديمة. لقد تمًّ تثبيت الخيارات والتوجهات الخاصة بالوضع الداخلي، وتكريس البنيان السياسي الصارم والمغلق بعد أن تمَّ إجهاض آخر فرصة للإصلاح، وذلك في الوقت الذي بدأ فيه العد التنازلي للعدوان الأمريكي على العراق، وصدر بعض التهديدات الأمريكية لسوريا.

أما الديمقراطية فإن "جوهرها هو قبول الرأي الآخر"، ولكن هل يستقيم ذلك مع الإشارة بضمير الغائب لمن يُعتقد أنهم يشكلون في مجملهم رأياً آخر مخالفاً لنظام الحكم السائد، وإغفال تسميتهم صراحة سواء كأفراد أو مؤسسات سياسية. والديمقراطية كذلك "هي أخلاق"، وهذا مفهوم عام، لا يعين شيئاً ولا يحدد نظاماً أو طريقة في الحكم والإدارة. الديمقراطية تنتج أخلاقاً جديدة، مغايرة بالضرورة لأخلاق النهب والفساد الشائعة، لأنها تعني أساساً قيام نظام سياسي يستند إلى مبدأ التعددية وتداول السلطة والشفافية والقدرة على المحاسبة. الديمقراطية مقبولة كمبدأ، وهذا شيء جيد. لكنها "الديمقراطية المنبثقة في تراثنا". ولذلك الإشارة للطيف المطالب بديمقراطية حقيقية بارتداء "أقنعة مستوردة"، واتهامه "بحشر الوطن في مصطلحات"، وكذلك ألا يصحّ القول بالمقابل إن نظامنا السياسي القائم هو نظام مستورد ونسخة مشوهة للأنظمة الشمولية التي سادت في الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية. أما بالنسبة للطيف المعارض في سوريا، فلم تشأ أطرافه حشر الوطن في المفاهيم والمصطلحات، لكن أيضاً لم تتصور أن أحداً يقبل بإخراج الوطن من التاريخ الإنساني. فالديمقراطية مجموعة من القيم والمبادئ الإنسانية العامة التي تحتاج لإمكانية اكتشافها وتطويرها في كل مجتمع، وتكمن خصوصية المجتمع، في إبداعه للوسائل والآليات اللازمة لتجسيد تلك القيم والمبادئ، وليس التنكر لها والاعتقاد بأنه يمكن تقديم "صناعة وطنية" للديمقراطية معزولة عن السياق الإنساني العام.

إلى جانب تهمة "الاستيراد" تقذف السياسة المعلنة بتهمة "العمالة" بوجه الطيف المعارض وهو ما يبقي هذه السياسة في حدود السياسات التقليدية المعتادة للأنظمة السياسية في المنطقة العربية. فهاتان التهمتان، أي الاستيراد والعمالة، جاهزتان دوماً لدى هذه الأنظمة لقذفها بوجه معارضيها.

بعد كل المبادرات الإيجابية من الطيف المعارض في سوريا من أجل القيام "بمصالحة وطنية"، جرى استسهال اتهام هذا الطيف بالمراهنة على الخارج، وذلك على الرغم من أن النقطة المركزية في الخطاب السياسي لمجمل هذا الطيف كانت، ولا تزال، أن "قوة الداخل هي العامل الأساسي في الرد على تحديات الخارج". لم يقف الأمر عند هذا الحد من الاتهامات، إنما أشير أيضاً لأصحاب الرأي المعارض بأنهم "أصحاب أفكار ثأرية وتحريضية"، في الوقت الذي ينادي أكثر المتضررين من النظام السابق بإجراء مصالحة وطنية، والقيام بإصلاح سياسي تدريجي، ولم يتجه لتصدير ظواهر ثأرية أو تحريضية، هو ما يشير أن المعارضة السورية كانت أكثر فهماً واستيعاباً لمتطلبات المصلحة الوطنية، وأكثر مرونة في السعي لتبني فهم جديد للسياسة والعمل السياسي، في حين أن السلطة مازالت أسيرة كوارث الماضي وعقل الماضي ولم تحدث أي تجديد في منظوماتها الفكرية والسياسية.

ما يثير الاستغراب هو اتهام المعارضين بالفساد المادي والأخلاقي، ونسيان مجمل الفساد بمستوياته كافة الذي يلف جميع أجهزة الدولة، والذي وضعت هذه السياسة، فيما مضى، من مكافحته هدفاً معلناً لها. يحدث ذلك على الرغم من أن السلطة بحكم امتلاكها القوة والثروة معاً هي الأكثر تعرضاً للفساد، وليس الطيف المعارض المحروم من أبسط الحقوق والمضيق عليه بشتى الوسائل.

تبدو هذه الاتهامات طبيعية بالاستناد إلى الرؤية التقليدية السائدة التي تشبِّه علاقة الدولة بالمواطنين، بالعلاقة داخل الأسرة الواحدة، حيث المحبة والتسامح والعقاب الأبوي تنتظم العلاقة الأسرية وتنتظم كذلك العلاقة بين الدولة والسلطة. هذا التوصيف صحيح للأسرة والدولة معاً، لكن ينقصه تحديد طبيعة الأسرة والدولة المقصودتين بالتوصيف الذي ينسجم مع أسرة ذكورية أبوية ومع دولة شمولية قائمة على اللون الواحد والحزب الواحد.

الدولة الديمقراطية تقوم على التعاقد بين المواطنين يكون القانون ناظماً لعلاقة الدولة بالمواطنين الذين يشاركون عبر هيئاتهم ومؤسساتهم السياسية في صياغته وتطويره وتجديده، ويتخذ طابعاً مستقلاً عن الدولة وهيمنتها، ومثلما يكون للدولة وظيفة مراقبة تطبيق القانون يكون أيضاً للمواطنين ومؤسساتهم السياسية والمدنية الحق والقدرة على مراقبة الدولة والتأكد من قيامها بمهامها ومسؤولياتها دون تجاوز وبالشكل الذي يضمن ويصون الحريات والحقوق.

الدولة القوية والحديثة ليست عائلة أو عشيرة تبني سياستها الداخلية على أساس وجود كتلة من المواطنين لا أثر لهم ولا وزن، ويتم التعامل معهم على أساس "التسامح والعقاب". الوطن ليس فرداً أو مجموعة يكون الولاء له أو لهم شرطاً على الأفراد ليكونوا في عداد المواطنين، أما غير الموالين فهم خارجون عن القانون ينبغي سجنهم أو عملاء ومتعاملون مع الخارج. الدولة القوية والحديثة هي تلك التي تتوافر على أنماط حكم ديمقراطية وعصرية. والتي تستقوي بقدرات مواطنيها وبنائها الداخلي المتين، لا تلك التي يجري فيها المساواة بين الوطن والدولة، ومن ثمة تختزل الدولة إلى فرد أو مجموعة من الأفراد.

تعني هذه التحديدات في السياسة الداخلية، استمرار النهج القديم في الحاضر المختلف والمستقبل المجهول والمهدد، وبما يضمن بقاء الطابع الأمني للدولة من خلال قطع الطريق أمام الأصوات المطالبة برفع قانون الطوارئ عن كاهل العمل السياسي والمدني.

ومع وضوح التهديدات الأمريكية لسورية، بعد نهاية حربها العدوانية على العراق، واتخاذها طابعاً أكثر صراحة وحدة، خرجت أصوات تردِّد النغمة ذاتها منذ أربعة عقود، والتي تبرر استمرار السياسة الداخلية المعتادة بالظروف الاستثنائية والمخاطر المتزايدة التي تحدق بالوطن، وضرورة مواجهة التهديدات الأمريكية بالوحدة الوطنية حول القيادة، وتأجيل مطلب الديمقراطية والمشاركة السياسية، خاصة أن هذه المطالب مطروحة اليوم بمنظور أميركي ولحساب مشروع الشرق أوسطية، على حد تعبير تلك الأصوات التي تنسى أو تتناسى أن سياسة احتكار السياسة بحجة الخطر الخارجي كانت عنوان السلطة ومرتكزها منذ أربعة عقود ولم تجنب الوطن الهزائم والمخاطر والتهديدات.

يبدو أن هذه الأصوات لم تستخلص درس بغداد جيداً، الذي قال بجلاء أن هذه الرؤى والسياسات تشكل أكبر داعم لعملية الاختراق الخارجي، بحكم إنتاجها لأوضاع داخلية هشة، فيما الطيف المعارض في سورية استند منذ ثلاثة عقود على الأقل، وما يزال، إلى معادلة القوة الداخلية كأساس لمواجهة أي خطر خارجي، ونادى دائماً بضرورة فتح الدائرة المغلقة من الداخل، لأن إبقاء الأمور على حالها سيكون المشجع الأكبر لفتح هذه الدائرة من قبل الخارج، بما يحقق مصالحه وبطريقة فاجعة ومذهلة، لا تعود على أحد بالخير، لا على السلطة الممسكة بزمام الأمور، ولا على الأحزاب، ولا على المواطنين جميعاً. نقول ذلك عندما نرى أنه بعد أن انتهت الإدارة الأمريكية من إنجاز المرحلة الأولى من أهدافها في العراق، أي الاحتلال وإسقاط النظام، سارعت مباشرة لكيل الاتهامات والافتراءات ضد سورية، مستخدمة تقريباً المبررات والذرائع ذاتها في غزوها للعراق، لكن الملفت أن الردود الرسمية والإعلامية في سوريا صبَّت أيضاً في الاتجاه نفسه للردود الرسمية العراقية، مع كونها أكثر ديبلوماسية وهدوءاً، وبعد ذلك بدأت السلطة – كما هي العادة – بالتكيف مع الواقع الجديد، دون أي محاولة للاستفادة مما حدث في العراق، وبدون أن ترى أي حاجة لإعادة النظر في تصوراتها وسياساتها.

واقعياً، يمكن القول إنه لن يفيد البلاد التصريحات الهادئة لمسؤوليها، فالأمريكيون لا يكترثون كثيراً بالآراء "المنطقية"، ولا يبدلون سياساتهم امتثالاً للطرح المنطقي والبراهين الأكيدة على حسن النية والسير والسلوك. فاللباقة والديبلوماسية لهما حدودهما إذا ما اصطدمتا بالخطط الأمريكية الجاهزة للمنطقة، كما أن سياسة التنازلات التدريجية والانحناء أمام العاصفة لا تمنع العدوان، فليس هناك أكثر مما قدمته السلطة العراقية خلال العام المنصرم قبل العدوان، لدرجة السماح بدخول مخدع صدام حسين نفسه.

لا أحد يقول بذهاب سورية إلى حرب خاسرة سلفاً، لكننا نقول بضرورة أخذ العبرة وفهم ماحدث في بغداد، التي تحولت إلى ساحة مفتوحة أمام جحافل الغزاة، حيث لا أحزاب سياسية ولا منظمات أهلية ولا مؤسسات نقابية، ولا جيش يقاوم العدوان. في الحقيقة كانت السلطة العراقية هي مصدر الإضعاف الحقيقي للبلاد حيال الخطر الخارجي، فالسياسات الإقصائية والقهر السلطوي والحكم الشمولي، لا تبني إلا هياكل كرتونية لا تصمد أمام العاصفة، والشعب المغيّب والمحاصر بالخوف والقمع ليس معداً للدفاع ضد المحتل أو الغازي، إذ كيف يمكن للبشر أن يقاوموا بعد أن شُلَّت مبادرتهم واحكم حكامهم القبضة عليهم تجويعاً وإذلالاً وإقصاءاً من الحياة العامة والشأن الوطنين ودفعوهم إلى الركض وراء اللقمة.

في مثل هذا النمط من الحكم تطغى الشكاية الداخلية للبشر على شكايتهم من أي غزو خارجي محتمل أو قائم، هذا إذا لم تتجه أحاسيسهم القصوى، في لحظة ما، نحو التشفي من النظام، ويتراجع لديهم الموضوع الأكبر: الوطن، الذي هو الأساس.

في أوضاع كهذه، تتكون أسس وجذور جميع الهزائم التي منينا بها، وهذا هو الدرس الذي يجب أن تدركه الأنظمة العربية، لا أن تركن وتطمئن لمظاهر النفاق التي تثبت وتعيد شخصنة السلطة، وهي المظاهر التي تنتعش دائماً في ظل استمرار الأوضاع الشمولية، فالمنافقون، حفاظاً على مصالحهم أو خوفاً من بطش المؤسسات الأمنية، هم عادة – كما بينت التجربة – أول من يهرب من استحقاق مواجهة الخطر الخارجي. في بغداد، قبل يوم واحد من سقوطها، كان العراقيون يهتفون للنظام ويعاهدونه على التضحية بالروح والدم في سبيله، وفي اليوم التالي كان كل شيء من الماضي، فإذا بهم يشاركون في هدم أركان النظام وأصنامه.

في خطابه أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية الأخير، حدد رئيس الجمهورية ثلاثة عناصر لمنع العدوان الأمريكي على العراق، أولها الوضع الداخلي العراقي، وثانيها الوضع الإقليمي، وثالثها الوضع الدولي. هذا صحيح وقد استفاض في البعدين الإقليمي والدولي، وتجاوز البعد الداخلي الذي هو الأهم والحاسم في مواجهة أي تهديد خارجي.

لابدّ من تحصين الوضع الداخلي السوري سريعاً في مواجهة التهديدات الأمريكية والمخاطر التي تلف المنطقة، بالسير في طريق المصالحة الوطنية، وبناء نظام سياسي ديمقراطي قائم على تعددية حقيقية وعلى سيادة القانون واستقلال القضاء ونزاهته، والخطوات الأولى المتوقعة في هذا الاتجاه تتمثل بضرورة إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وتخفيف القبضة الأمنية وإعادة ثقة المواطن بدولته.

 

العراق بين الاحتلال الأمريكي

والتخاذل العربي

 

-1-

سقط العراق بيد الغزاة بعد اثني عشر عاماً من حصار شعبه المضاعف داخلياً ودولياً، وبعد عشرين يوماً من القتال المرير، والقصف الأمريكي الوحشي المدمّر لمعظم البنى التحتية المدنية والعسكرية، ليصار بعد نشر الموت والخراب إلى انتهاك وسلب المواقع المتعددة لحضارة بلاد مابين النهرين منذ آلاف السنين، وكأن هولاكو بعث من جديد مع بداية الألف الثالثة للميلاد بين يدي «الحضارة الأمريكية».

وبعد سقوط بغداد، وانهيار السلطة العراقية، وتوقف المقاومة والتضحيات التي بعثت الأمل لدى الأمة العربية بإمكانية الصمود، ومن ثمّ التحوّل باتجاه إفشال العدوان..

وبعد انقشاع الغطاء عن الحقائق، وعن ذلك التخاذل العربي الرسمي الذي واكب «الحدث العراقي» منذ بدايته وحتى انتهاء المعارك، يبدو أن الأنظمة العربية الضعيفة والمتآكلة أمريكياً غير قادرة على المواجهة الموضوعية للوقائع الجديدة، وذلك عبر محاولتها الالتفاف على حركة التطور التاريخي، ومداراة عجزها عن مواجهة استحقاق المرحلة الراهنة، بعد إخفاق مشروع «التقومن القطري» المناهض لديها للمشروع النهضوي العربي، نظراً لطبيعتها البنيوية الأمنية الاستبدادية.

ولم يكن استعجالها لعقد مؤتمر قمة شرم الشيخ قبيل العدوان إلا سعياً منها للبحث عن مخرج للأزمة المتفاقمة بينها وبين الجماهير العربية، وافتراقها عن التوجه العالمي لإدانة العدوان، حيث قررت في مؤتمر "اليوم الوحيد" رفض الحرب على العراق بشكل صوري، في الوقت الذي لم يبادر فيه إلى الترجمة العملية لذاك القرار في أيٍّ من مستويات العمل الوطني أو الدولي.

لم يكن جديداً أو مفاجئاً التخاذل الذي ارتسم في صورته الحادة على محور الحدث وتطوراته الكارثية لأنه يأتي تجسيداً للتوجه الرئيس للدولة القطرية منذ انكفاء المبرر القومي العربي، وتغييب إرادة القوى الوطنية والقومية الديمقراطية، ومعظم الفاعليات الاجتماعية والثقافية العربية عن ساحة الفعل والتأثير في القرار السياسي العربي.

لم يكن التوجه القطري التوتاليتاري إلا المقدمة الموضوعية، ومنطلق التأسيس لمجموعة التوجهات والسياسات الداخلية، والعربية، والدولية، المناكفة لإرادة الأمة العربية وطموحاتها في بناء مشروعها النهضوي المعاصر في هذه المنطقة من العالم.

ولعلّ أبرز هذه التوجهات وتعبيرها السياسي العالمي، والإقليمي، هو الرضوخ والإذعان لإملاءات وشروط السيناريوهات الأمريكية، الصهيونية في الوطن العربي، الهادفة لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بما ينسجم ومتطلبات التقدم لإنجاز المشروع الصهيوني، و تصفية القضية الفلسطينية ومعها أهداف النضال العربي في التقدم والتنمية وبناء الدولة المدنية الحديثة.

ولا يمكن لهذه التوجهات وشبكة العلاقات القائمة مع الولايات المتحدة، أن يؤسس لها وتستقر بعد غياب عبد الناصر ومشروعه القومي عن موقع القرار الرسمي العربي، إلاّ من خلال التفرّد الفئوي بالحكم والتحكم بمصير البلاد والعباد، وانتهاج السياسة الداخلية التي تشكل انعكاساً للتابعية والارتباط بالمصالح الإمبريالية العالمية.

ولذلك، فإن موقف الأنظمة العربية الداعم والمؤيد والفاعل في حصار شعب العراق لمدة اثني عشر عاماً لا يأتي تعبيراً عن الالتزام «بالشرعية الدولية» بمقدار ما هو تعبير عن الرغبة في الموافقة على ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية، على حساب الحق الإنساني لأطفال العراق بالحياة، وعلى حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أن تتوافر لها مقومات التقدم والتحقق.

ولم يكن النظام العراقي – الذي ارتكب خطيئته القاتلة عربياً في اجتياح الكويت – أفضل حالاً من غيره إن لم يكن الأسوأ بينها وعلى امتداد سنوات الحصار الجائرة والقاسية، لم تدر في خلده الضرورة الحيوية والاستراتيجية للعمل على تحقيق مصالحة وطنية شاملة، والتقدم عبرها لبناء وحدة وطنية ديمقراطية يشكل التماسك الاجتماعي – على اختلاف الطوائف والأثنيات- محورها الرئيس والصمود الوطني المقاوم للحصار والعدوان أساسها المتين.

كما لم يكن جاداً في العمل على إعادة إنتاج علاقاته مع المحيط العربي والإقليمي والدولي، بما يحقق إمكانية تفاعل دولي، ومقاومة جدية وجادة للعدوان الذي اتضح منذ سنوات أنه قادم على الشعب العراقي في اللحظة الأمريكية المناسبة.

ولذلك، أيضاً، يتبين التخاذل بالعربي، بل وتواطؤ العديد من الدول القطرية مع العدوان، عبر ذلك الصمت والتوقف عن أي تحرك ديبلوماسي على مستوى العالم أو في إطار المؤسسات الدولية للمبادرة إلى العمل على وقف العدوان، وانسحاب الغزاة، مما يتضح معه مدى هزال المواقف العربية والقرارات التي تتخذ، والإعلام الأجوف والمشوّه الذي يمكن أن يقول مالايمكن لهذه الحكومات أن تقدم عليه أو تمارسه مما يجعل الهزيمة العسكرية هزيمة لهذه الأنظمة مجتمعة وليس لإحداها على وجه التحديد.

ومن هنا، فإن البنية السياسية للدولة الأمنية، وما يرتبط بها من تشوهات بنيوية في العلاقات الوطنية الداخلية على مختلف الصعّد، وما ولدته من أزمات داخلية متفاقمة، كما في محيطها العربي والإقليمي، هذه البنية ليست قادرة  على التحول في اتجاه مواكبة المتغيرات الدولية، والتحولات العالمية المتسارعة في مختلف الميادين، عدا عن افتقادها لمعظم مقومات الحفاظ على الاستقلال والسيادة الوطنية، وعجزها عن إنجاز مهام التنمية المستدامة، وصون وحدة المجتمع وتماسك فئاته المتعددة.

وبغض النظر عن دعاة الديمقراطية المزعومة، والتصورات الليبرالية الجديدة المتوحشة، ومحاولات الفعل الميكانيكي المشوه لتجارب المجتمعات، فإن النظام التوتاليتاري الذي كان سائداً في العراق (كما في غيره من معظم الأقطار العربية) أدى إلى تدمير البنية الاجتماعية والثقافية للشعب العراقي بفعل طغيان الاضطهاد والعطالة الاستبدادية، وهذا ما ولّد وأدى إلى تنمية دور الأصولية من جانب، أو العودة بالمجتمع إلى مرجعيات أخرى ما قبل قومية من قبلية وعشائرية وإثنية عرقية تمارس تعميق الانقسامات الداخلية على قوس التوتر الدائم بنيها.

 

-2-

هذه الوضعية القطرية والعربية السائدة، كانت وما تزال تشكل العامل الحاسم للنتائج الكارثية للأحداث وتطوراتها اللاحقة منذ الاستقلال الوطني وما أعقبه من نكبة العام 1948 الفلسطينية وصولاً إلى احتلال العراق، مروراً بالعديد من الهزائم، وصور الاقتتال الداخلي، وإشاعة مناخ الاستبداد وممارسة تعطيل المجتمع بمختلف قواه وفاعلياته، ونشر الفساد والإفساد الاجتماعي والاقتصادي، وتعطيل عملية التنمية، واستبدال المشروع النهضوي، بمشروع الهيمنة الفئوية الحاكمة والمتحكمة بمصير الوطن ومستقبله عبر انتهاك المجتمع وتغييب إرادته الوطنية عن ساحة الفعل والتأثير في العلاقات السياسية الداخلية، وغير ذلك مما لامجال للتفصيل فيه، وذلك في ظل التطورات المتسارعة على مستوى العالم بصورةٍ ومذهلة، وفي ظل متغيرات دولية، واقتصادية وتقنية، وعلمية، تتجاوز في تسارعها، وفي إعادة تشكيل محاور الصراع والوفاق بين الدول الكبرى، كل تلك التصورات السياسية التي فات أوانها، خصوصاً بعد سيادة الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأمريكية، وظهور آليات العولمة وأشكال التنافس القاتلة بين آلياتها المتعددة.

وبغض النظر عن اتجاهات التطور المتسارعة في عالمنا المعاصر، فإن الوطن العربي بدويلاته القطرية، وكافة المؤسسات المحاصرة أو المقبوض عليها بإرادة القوة الطاغية، لم يعد قادراً عبر حكوماته القائمة على مواكبة وإدراك أبعاد المتغيرات الدولية، وما تحدثه من تغيير في السياسة الدولية، وحجم المخاطر الكارثية التي تنتظر من يبقى في دائرة التكيف السلبي، والتبعية، والولاء لمراكز الهيمنة العالمية، في ظلّ عالم تسوده الفوضى والاضطراب، وانحسار ذلك التأثير المحدود لكافة مؤسساته وهيئاته الدولية.

وما يمكن أن يطلق سلسلة الأفاعيل الدولية المناهضة لحركة التحرر والحرية والتي تنتهك السيادة الوطنية للشعوب العالمثالثية، هو اكتمال الدائرة بين التبعية والارتباط بالقوى الخارجية والتكيف السلبي مع المتغيرات العاصفة، وبين الإرادة الإمبريالية المنفلتة من عقالها، التي تحاول إعادة تشكيل العالم وفقاً لمصالحها، وقوة الإرادة الطاغية لديها. وعلى طريق إعادة إنتاج السيطرة على الوطن العربي، وثرواته، وموقفه الجيوسياسي، تحت شعار ما يدعى «مكافحة الإرهاب» أو ملاحقة أسلحة الدمار الشامل الهاربة من قطر لآخر حسب الزعم الصهيوني – الأمريكي، تتعدد الوسائل والأساليب بين السياسة والحرب، وبين الضغوط "الدبلوماسية" واشتراط الإذعان الكامل وبين العدوان المدمر كما حدث للعراق، وكما يتم التهديد به لأفكار عربية أخرى، لم تدرك، عبر التحكم التوتاليتاري بها، أهمية بناء مقومات الصمود الوطني في وجه تحديات القوى الخارجية المعادية.

ومع تراجع فاعلية المؤسسات الدولية، وعدم اكتراث الإرادة الأمريكية للمعادلة السياسية الناظمة للعلاقات بين دول العالم، ومصير "التحالفات القديمة" ومعها هيئة الأمم المتحدة، يصبح السلام العالمي، وحقوق الشعوب في الاستقرار السياسي وتقرير المصير، وبناء السيادة الوطنية من الأمور التي لا يتوقف صقور الإدارة الأمريكية المتصهينة  عند حدود الاهتمام بها، أو احترامها، نظراً لكونها تشكل عائقاً كبيراً أمام هذا الجنون السياسي الأمريكي الذي يهدد الأمن والسلامة في العالم بأخطاره الماثلة أمامنا.

وبذلك لم تدرك أنظمة الذل والاستبداد العربي، الافتراق الكبير الذي يتسع ويتمادى بين الرأي العام العالمي، وبين القوى الإمبريالية والصهيونية المعولمة. كما لم تدرك أن كافة "المسيرات " المعلبة والمسيطر عليها إنما تكشف أمام العالم بأسره طبيعة هذه الأنظمة وحقيقة العلاقات القائمة مع الجماهير المحاصرة والمغيبة عن مواقع الفعل الوطني والقومي.

لكنّ الثابت في ذلك أن "الحدث العراقي" وتداعياته يشكل أحد العوامل البارزة لإعادة تشكيل معادلة السياسة الدولية، التي يمكن لها أن تبنى مرة أخرى على إرادة القوة بين الأقطاب الرأسمالية العالمية.

 

-3-

ثمة، إذن، مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية التي يتطلب العمل الجاد والفاعل لمواجهة العدوان توافرها، وبدونها أو بدون أي منها لا يمكن التوصل إلى إعادة إنتاج صمود وطني وقومي يتصدى للعدوان ويدفعه للإخفاق بصورة مرحلية واستراتيجية.

ولعلّ أبرز هذه العوامل يتمثل في مواقع الاستبداد المغتربة عن الاتجاه العام لحركة التاريخ الإنساني، وإن خيار حلّ المسألة الديمقراطية، ليس مجرد عنوان لشعار من الشعارات كما يحلو لأعداء الديمقراطية أن يصنفوا، وإنما هو ضرورة حيوية لمواجهة متطلبات المرحلة في اللحظة الراهنة، والتأسيس لبناء مجتمع ودولة تضمن سيادة القانون والحرية الفردية والاجتماعية، حيث يتم العمل في معالجة الخلل القائم وصور الفساد التي تشكل الظاهرة الأبرز في الحياة الاقتصادية والسياسية القطرية ليصار إلى الانتقال لبناء تنمية متعددة الأبعاد، يتمّ بها ومن خلالها التأسيس الفعلي لمقاومة وإفشال كافة السيناريوهات الأمريكية والصهيونية في المنطقة.

وتشير التجربة التاريخية، أن ليس هناك من تنمية بدون تلاحم قومي عربي، تتجاوز فيه الأمة شعارات الأنظمة ومقولاتها التي تجاوزها الزمن حول التضامن بين الحكومات حيث تحول إلى تنافر لم يجد حتى التطبيع سبيلاً لإعادة إنتاج علاقات عربية تضع المصلحة القومية في  موضع الترابط الجدلي مع المصالح الوطنية للأقطار العربية.

هذا لا يعني إغفال دور الدولة في النهوض القومي العربي، لكنّ المسألة مرتبطة بإرادة المجتمع المعني، وليس بالإرادة المستلبة دولياً للمتحكمين بمركز القرار السياسي، حيث يتركز الفعل السياسي على ماهو قطري أو إقليمي في تعارض مصطنع مع المصالح القومية للأمة العربية.

وقد أبرز "الحدث الأمريكي" قبل العدوان وأثنائه، كيف يمكن للرأي العام العالمي أن يتجاوز التعثر الكبير الذي أصاب العلاقات الدولية، وأن يبرز أهميته المتميزة في التفاعل مع الأحداث وتطوراتها بالرغم من الآثار السلبية للأحادية القطبية للولايات المتحدة، والتراجع الكبير الذي أصاب حركة التحرر العالمي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

ولعلّ البارز في الرأي العام العالمي، ومظاهرات الملايين، أنه قادر على اختراق معظم معادلات الليبرالية الجديدة المتوحشة، وأهمها الإعلام الأمريكية والصهيوني ليتعامل مع "الحدث العراقي" بصدقية إنسانية توقفت في الأداء والتعبير على الرأي العام العربي الذي تحاصره حدود الأنظمة وقيودها وأجهزتها القمعية.

ومن ثم فإن إعادة إنتاج القنوات المدنية الحديثة، للتواصل مع شعوب العالم من شأنها أن تسهم في إيصال وإيضاح الحقائق القائمة خلف الدعاوى الزائفة للإعلام الصهيوني، وأن  تؤدي إلى تحقيق العزلة على نحوٍ ما،  للقوى الخارجية المعادية.

ويبدو واضحاً أن المشهد السياسي العربي بعد احتلال العراق يشبه إلى حدٍ بعيد المرآة المتشظية، لكنّ الواضح أيضاً أن أمتنا العربية، في اللحظة الحرجة هذه، لا تملك العديد من الخيارات، فما تريده الولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل" هو التسليم بالإملاءات والشروط لإدارة المحافظين المتصهينة في واشنطن، وما يتطلبه الوجود والمستقبل العربي في هذه المنطقة من العالم هو رفض الإذعان لإرادة العدوان، وبناء المقاومة الفاعلة على امتداد الوطن العربي، فالأمر لا يحتاج إلى تأمل عميق للاستنتاج بأن أمر الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية في الوطن العربي، لا يهم الإدارة الأمريكية بمقدار ما يهمها أولاً وآخراً بسط هيمنتها على الوطن العربي بثرواته وموقعه الجيوسياسي في زمن العولمة والتنافس بين أقطابها.

سواء اختارت الإدارة الأمريكية توسيع رقعة العدوان لتشمل أقطاراً عربية أخرى كسوريا ولبنان وغيرهما، أو توجهت لتثبيت مقومات استقرار احتلالها للعراق للمباشرة في استغلال الثروة النفطية، والانطلاق منه لمواصلة العدوان في مرحلة قادمة، فإنّ التأسيس لمقاومة عربية شاملة لابدّ وأن يبدأ بمحاصرة ركائز العدوان واستنزاف طاقاته على أرض العراق. بمختلف الوسائل والإمكانات المتاحة. إذ لم يعد من الممكن القبول باستمرار الرفض للفظي العاجز الذي تعلنه الأنظمة العربية دون ترجمة عملية لذاك الرفض، في وضع حد للاحتلال والمعاناة، ومحاولة الإدارة الأمريكية تقرير مصير بالعراق تحت شعارات ودعاوى زائفة عن الحرية والديمقراطية.

*  *  *

الوضع الفلسطيني

والتحديات الراهنة

 

 

الأحداث الكبيرة في عالم السياسة لا تولد من فراغ. فهي حصيلة مقدمات طويلة وتفاعلات معقدة تؤدي إلى معطيات ونتائج جديدة تتجاوز دائماً مكان الحدث إلى جواره الجغرافي (بشكل خاص) وتنتج توازنات قوى جديدة في العالم ككل (بشكلِ عام). من هنا لا يمكن النظر للعدوان الأمريكي على العراق مقطوعا عن سياقه التاريخي وتأثيره الإقليمي بالأخص على الوضع الفلسطيني، لا سيما أن بداية الحرب العدوانية على العراق قد أخذ الإعداد لها فعليا في نيسان 1990 إثر تصريح للرئيس صدام حسين بأنه "سيحرق" نصف "إسرائيل" إذا ما حاولت الاعتداء على أية دولة عربية.. والذي تبعه بعد أيام زيارة لوفد من الكونغرس الأمريكي لبغداد ليعود ويصرح رئيسه بعدها: "شعرنا وكأننا في الكرملين.." . في تلك اللحظة التي كانت فيها الولايات المتحدة تبحث عن عدو جديد بعد انفراط عقد حلف وارسو وسقوط أنظمته وترنح الاتحاد السوفيتي من ناحية أولى، ولشعورها بالنصر في الحرب الباردة الطويلة التي يجب أن يترتب عليها الحصول على أكبر قدر من الغنائم، وإعادة رسم الخرائط السياسية التي تتبع كل حرب (كما قال جميس بيكر لعمرو موسى آنذاك). فالولايات المتحدة كانت مدركة أن أهدافها من عدوان عاصفة الصحراء لا تقتصر على العراق أو الكويت بل تشمل المنطقة بأكملها, التي  يجب أن يعاد ترتيبها وفق المصالح الإستراتيجية الأمريكية , غير مفرقة كثيرا بين من تعاونوا وغيرهم، فقد اعتبرت الجميع قد هزموا كما قيل ذلك لأكثر من طرف عربي شارك في تلك الحملة (أنتم الطرف المهزوم فكيف تريدون فرض شروط) وربما في أحسن الأحوال قيل لهم ومازال يقال لهم ما قيل للأمير فيصل في مؤتمر باريس 1919 "انتم أصدقاء ولستم حلفاء" فمتى سيفهم الدرس؟!!

كان الطريق إلى بغداد قد انكشف عام1991 فلماذا لم يسقط النظام العراقي آنذاك؟

رغم التهرب الدائم للإدارات الأمريكية من هذا السؤال فإن جوابه معروفُ. فهي لم يكن بامكانها ترتيب  أوضاع المنطقة كما تريد , فالاتحاد السوفيتي كان لا يزال موجوداً، ولو أنه دون أنياب، والشركاء الأوربيون كانوا مشاركين بقوة في الحملة، وربما كانت ستنفلت الأمور وتقع اضطرابات خارج السيطرة ,  أو أنها ستضطر أن تذهب لإدارة جماعية أو دولية للعراق , كما اضطرت للقبول بالرعاية الدولية لمؤتمر مدريد الذي كانت تسعى من خلال الهيمنة عليه لاستكمال ترتيبات المنطقة بسلام يضمن الأمن والاستقرار والتفوق للكيان الصهيوني. لقد أخفقت التوقعات المتفائلة بأن قيمة "إسرائيل" الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة ستقل كثيرا بعد دخولها المنطقة، فقد أكدت الإدارات المتعاقبة , ومازالت , التزامها التام بضمان أمن إسرائيل بل وأضاف "باول" أمام مؤتمر اتحاد الجمعيات اليهودية الشهر الماضي التزام الولايات بضمان استقرار وازدهار "إسرائيل" أيضا.

في حين لم تكن رؤية الولايات المتحدة قد تبلورت بشكل نهائي للمنطقة، وخياراتها قد حسمت بين نظرية الاحتواء والحرب الاستباقية، فإن الثوابت لديها كانت ضمان استقرار المنطقة بما يضمن حماية منابع النفط وطرق نقله، وضمان أمن إسرائيل. وكل ما عداها كان متحولا أو نسبيا.. ثم جاءت أحداث 11/أيلول/2001 وبلورة الإدارة اليمينية المتطرفة للرؤية الأمريكية للمنطقة بشكل جديد عبرت عنه بضرورة إحداث تغيرات كبيرة وصفتها بمقولة: "تغير ثقافات، تغير في حكومات، تغير حكومات".

لقد جاء الهجوم العدواني الأمريكي على العراق في آذار الماضي ضمن هذا السياق لإعادة ترتيب المنطقة وفق مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية (حسب تصريح علني أدلى به وزير خارجيتها "باول" في6/2/2003) فالولايات المتحدة التي تركت الحرب مفتوحة منذ عام 1991 بدأت الإعداد لهجمتها الثالثة منذ 29/11/2001 عندما وضعت وزارة الدفاع ورقة تتضمن ضرورة إسقاط النظام العراقي بعد ندوة حضرها /16/ خبيرا في شؤون الشرق الأوسط من بينهم وزير الخارجية الأسبق كيسنجر. لذلك فقد أعدت الحرب على جميع الجبهات العسكرية والسياسية. مما أتاح لها تحقيق انتصار سريع نسبياً ومؤثر بشكل سلبي على المنطقة بأسرها وبالأخص على الوضع الفلسطيني، فهل من المستغرب بعد ذلك أن يتزامن تكليف محمود عباس "أبو مازن" بتشكيل حكومة فلسطينية مع سقوط بغداد؟! وذلك كان مطلبا أمريكيا، بل شرط من شروط إعلان خارطة الطريق التي وضعت خطوطها الولايات المتحدة ووافقت عليها اللجنة الرباعية التي تضم روسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة، ورغم أنها لم تنشر حتى الآن وعوملت كالخطط العسكرية في سريتها والإصرار على تسليمها للقادة فقط.  فقد تسرب للصحافة خطوطها العامة، فهي تضم ثلاث مراحل، الأولى: تتضمن وقف العنف، نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، إجراء إصلاحات هيكلية في بنية السلطة الفلسطينية، إعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية، وإيقاف الاستيطان.. المرحلة الثانية: قيام دولة فلسطينية، قيام علاقات اقتصادية متبادلة مع "إسرائيل"، التطبيع مع كل العرب (مبادرة الأمير عبد الله). المرحلة الثالثة: المفاوضات النهائية بشأن اللاجئين والقدس..

مع كل ما نراه من إجحاف وأخطار تفوح من  كلمات الخريطة بالنسبة للوضع الفلسطيني, أخطرها الحرب الأهلية وضياع حق اللاجئين  ,فإن "إسرائيل" تدعي بأن لديها مائة تعديل، وما تزال الولايات المتحدة رافضة ممارسة أي ضغط عليها وفق تصريح "كولين باول": "إن بلادي لا ترى ضرورة لممارسة أي ضغط على إسرائيل للتقيد بخارطة الطريق" وتصريح بوش "لا يمكن فرض أي شيء لا يقبله طرفا النزاع" وهو طبعا يقصد "إسرائيل" لأن الولايات المتحدة مارست فعلا ومازالت تمارس الضغوط على الفلسطينيين بكل أطرافهم (السلطة، الفصائل المقاومة) بشكل مباشر وغير مباشر عن طريق حلفائها وأدواتها في المنطقة.. وفي حين صرح أبو مازن عن استعداده لنزع سلاح الفصائل الفلسطينية والالتزام بمتطلبات الخطة، رد مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بصعوبة وقف الاستيطان حاليا..

فكيف يمكن السير في هذه العملية غير المتكافئة وغير المتوازنة؟ لا شكّ أنها ستكون على حساب الطرف الأضعف فحتى الزمن يلعب ضده، وربما على ذلك تراهن إسرائيل أيضا.. فمتطلبات الطريق سيكون لها أخطار كبيرة على الوضع الداخلي الفلسطيني وسقوط بغداد وتكريس الهيمنة الأمريكية على المنطقة بشكل مباشر سيكون له أثر كبير على ضعف الدعم العربي بل ربما انقطاعه كعمق إستراتيجي للقضية الفلسطينية..

إن النضال الفلسطيني الآن يمر فعلا في مرحلة حرجة جدا وأمام خيارات ضيقة للغاية، لا تتناسب مع الخلافات الواسعة بين أطرافه، فلا الواقعية السياسية قادرة على تحقيق حد أدنى من المطالب الوطنية الفلسطينية، ولا المقاومة أمامها أفق واسع دون الرفد العربي والوضع الدولي المواتي، وكلاهما واقع تحت مطرقة التغيير الأمريكي للمنطقة فالسلطة الفلسطينية خاضعة لبند (تغيير في الحكومات)، والمقاومة خاضعة لبند (تغيير الثقافات) حيث تسعى لوصم أي عمل مقاوم بالإرهاب حتى الأعمال التي تتم ضد جيشها وهذا ينسحب بالطبع على جيش الحليف الاستراتيجي "إسرائيل".

أمام هذه التعقيدات التي تميز المرحلة الحالية، لا بدّ من تفادي أي اقتتال فلسطيني فلسطيني مهما كانت الأسباب، الأمر الذي يتطلب الكثير من ضبط الذات ومن المرونة لأن الاقتتال هو ما يتمناه ويعمل له العدو. واستئناف الحوار بين الفصائل الفلسطينية كافة لإعادة إنتاج ثوابت وطنية جديدة وتحديد إستراتيجية مرحلية تتمكن من مواجهة متطلبات المرحلة دون التفريط بالحقوق الوطنية الأساسية، وجعل الإصلاح هماً وطنياً ينفذ وفق اتفاق الأطراف الوطنية، لا انتظار أن يفرض من الخارج وفق منظوره ومتطلباته.

وأخيراً الإسهام في استنهاض الوضع العربي وعدم الايغال  في الخصوصية الوطنية، فالحل في النهاية سيكون معبرا عن موازين القوى وعن الوضع العربي العام. إن آثار حل القضية الفلسطينية ستطال الكثير من الدول العربية بشكل مباشر (قضية اللاجئين والقدس) أو غير مباشر (الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة)، والإسهام في استنهاض حالة دولية شعبية ورسمية مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، فما زالت "إسرائيل" تصرح بعدم رغبتها بتنفيذ الكثير من القرارات الدولية مثل قرار مجلس الأمن /242/ وقرار الجمعية العامة /194/ وغيرها رغم أنها الدولة الوحيدة في العالم التي نشأت بقرار من الأمم المتحدة، وبشكل مشروط بعودة اللاجئين وتعويضات الحرب، وهي الدولة الوحيدة الموصوفة كدولة احتلال في الأمم المتحدة ولابد من إحياء هذه الحقائق التي يكاد يطمسها الإعلام العالمي المتصهين..

إن بوادر حراك شعبي عالمي بدأت بالظهور منذ مؤتمر سياتل حتى العدوان الأخير على العراق وإن بوادر التناقض في الوضع الدولي بدت جلية لكنها تحتاج لوضع عربي وفلسطيني مؤهل للاستفادة منها، وهذه مهمة الشعوب وقواها الحية.

*  *  *

حتى يتوقف مسلسل الهزائم

 

محمد علي مقلد

السفير 1/5/2003

صدام ليس الهزيمة اليتيمة لبرنامج المواجهة العربية. هزيمة حزيران سبقتها وتزامنت مع فشل المحاولات الوحدوية المتكررة، وأبرزها الوحدة المصرية السورية، لكن دروس الهزائم كانت تقرأ بالمقلوب، فيرشق النظير نظيره بتهمة الخيانة، ثم يمضي سعيدا بالبرنامج السياسي ذاته. وإذا استمرت المواجهة مسلحة بالمنطق ذاته فلن تتغير النتائج. إذن لا بد من قراءة جديدة.

الدرس الأول هو أن نعترف بالهزيمة. يعني أن نكف عن وصفها بالنكسة، أو بالنظر إليها كمعركة لا كحرب، وأن نكف عن حشو وعينا بالجوز الفارغ. يعني ألا يطلع علينا، من داخل العراق أو من خارجه، من يرفع شارة النصر، فالحكم العراقي انهار والوطن والشعب مهددان بمستقبلهما، وإذا كان مثل هذا الاعتراف الشجاع ضروريا منذ هزيمة حزيران، فأن يأتي متأخرا خير من ألا يأتي أبدا.

عبد الناصر وحده، من دون سائر قيادات الأمة، امتلك شجاعة الاعتراف بالهزيمة، هزيمته الشخصية وهزيمة برنامجه، لكنه مات، قبل أن يختبر التعديلات التي اقترحها. كان سلوكه الجريء هذا نافرا داخل لوحة ترفع فيها شارات النصر وراء كل هزيمة، على غرار ما فعل صدام بعد حربه مع إيران، أو ما فعله بوضوح أكبر بعد حرب الخليج الأولى حين تمادى في التباهي بانتصار وهمي، ثم راح يكرم هذا الانتصار في جعل تاريخ ميلاده عيدا وطنيا في العراق، ولا نستبعد أن يبادر صدام حسين، فيما لو ظهر حيا في مكان ما من العالم، أن يطور الفكرة ويغير الشارة ويبتكر صورة.

بانتظار ذلك اجترح الخيال الشعبي أوهاما عن خطط رسمها النظام العراقي، لا بد أن يفاجئ بها العالم والغزاة، وذلك رغبة منه في عدم تصديق ما جرى. وهو مازال يأمل أن يهب الشعب في وجه المعتدي، مقتديا بالتجربة اللبنانية ومقاومتها الباسلة.
الدرس الثاني هو أن نكف عن استخدام المعايير الأخلاقية في تقويم النتائج، فنتوقف عن حصر المسؤولية بشخص أو أشخاص، ثم نرشقهم بتهم الخيانة والعمالة للاستعمار. ذلك أن قيادة حركة التحرر الوطني العربية بكل فصائلها القومية والماركسية والإسلامية، ومنها حزب البعث وصدام حسين، صادقة في انتمائها الوطني والقومي، وكل تخوين واتهام بالعمالة لها ليس إلا تجديفا، أو هو تعبير عن تنافس. ومن الموقع الوطني والقومي هذا، خاضت حركة التحرر الوطني معاركها في سبيل شعارات وأحلام جميلة، منها الوحدة والحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وتحرير فلسطين، الخ، ولم تكن نظريات التخوين إلا أسلوبا في النقد يبتعد عن لب الموضوع، وهو اللب السياسي، ليتخذ منحى أخلاقيا، أو هو كان يجعل من الأخلاق وسيلته الفضلى للتجهيل السياسي، فيصبح القاموس المتيسر في نقد التجربة مقتصرا على مصطلحات الصدق والكذب والخيانة والتبعية وبيع النفس للاستعمار، وغير ذلك من نعوت تموه الهزيمة وتستر على أسبابها السياسية.

ينطبق ذلك على كل القوى، بما في ذلك تلك التي تخاصمت واحتكمت إلى السلاح في خصوماتها، كما فعل الناصريون والقوميون والبعثيون والشيوعيون والإسلاميون، على امتداد تاريخهم الطويل، في النضال كما في الخصومات، وينطبق أيضا على المعارك الكبرى والتسويات الكبرى، فلا النكبة ولا الهزيمة ولا أوسلو كانت أفعالا خيانية، بمقدار ما كانت تعبيرا عن أخطاء ونواقص في البرنامج السياسي، أو ترجمة لقراءات متغايرة لموازين القوى ولحسابات الربح والخسارة.
بهذا المعنى لم تكن حرب صدام على إيران خيانة لأحد أو لجهة أو لقضية، بقدر ما كانت تعبيرا صادقا عن منظومة فكرية وسياسية تجسد مضمونا معينا للقضية القومية العربية، وما كان اجتياحه الكويت إلا من قبيل الأمانة للصورة الماثلة في الرأس القومي العربي، منذ أربعينات القرن الماضي، وهي صورة تستند إلى الحماس الشوفيني أكثر من استنادها إلى قراءة الظروف الموضوعية.

لم يكن صدام حسين تجسيدا مزيفا للحركة القومية، ولا كان صورة لسواها، بل ربما كان صورتها الفاقعة، ذلك أن الذين تعاقبوا على تمثيلها فعلوا كما فعل، فلم يستبدل الخلف بندا واحدا من برنامج السلف عندما انقلب عليه، ولم يكن «البلاغ رقم واحد» ينطوي على غير تهمة الخيانة والعمالة للعهد البائد، فضلا عن وعود بالتجديد وتمجيد للثورة المظفرة بقيادتها الجديدة. ربما استنادا إلى ذلك يجري القول سهلا عن شبه كبير بين صدام حسين وعبد الكريم قاسم ومن بينهما من الأسماء اللامعة أو الباهتة في قيادة العراق وحركة التحرر. والتمايز الممكن بين أي اثنين ليس تمايزا نوعيا لأن البرنامج السياسي واحد، بل هو مجرد تمايز فردي وأحيانا أخلاقي، وهو ليس قليل التأثير حتى لو كان أخلاقيا، لكنه لا يغير الأساس الجوهري الذي قام عليه التاريخ الكفاحي الصادق لحركة التحرر الوطني العربية.

مع هزيمة صدام حسين، قد يحلو للبعض تجريده من كل فضيلة، وهو أيضا تجديف، فتاريخ حركة التحرر ليس فحسب تاريخ هزائم، والعراق المهزوم اليوم، كان لعقود خلت، عراق التنمية والتقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي، وعراق البحبوحة والدخل المرتفع للفرد، الخ، تماما مثلما كانت مصر عبد الناصر قبل الهزيمة، مصر قناة السويس والوحدة العربية وسواهما، ومثلما كانت قوى التحرر في لبنان من التضامن مع ثورة الجزائر حتى دحر الاحتلال الإسرائيلي. غير أن الصفحات المشرقة في تاريخ التحرر كانت محكومة دوما للاستراتيجية السياسية ذاتها، وهي الاستراتيجية المهددة بالسقوط عند سقوط صدام، ولا يرغب لها أصحابها بمثل هذا المصير المنطق الأخلاقي في نقد الهزيمة، أي منطق التجهيل السياسي، مسؤول عن عدم الاستفادة من دروسها، بل هو مسؤول، وبدرجة أكبر، عن ترسيخ الفهم الزائف للقضية القومية في وعي جماهير الأمة، وهو وعي رسمت ملامحه وحددت أركانه برامج المواجهة، ومعه يصبح من الطبيعي، في ظل الاعتقاد بصحة البرنامج، أن يتحمل عبء الهزيمة خائن أو عميل للاستعمار، أو شريك له في التآمر على مصالح الأمة. من هذه الزاوية وحدها تفهم الشائعة المستخدمة في تفسير السقوط السريع للنظام العراقي، ومفادها أن ما جرى ليس سوى تمثيلية قام صدام حسين بدور البطولة فيها. على أن اللافت هو أن بين مروجي الشائعة وطنيين صادقين بانتمائهم الوطني والقومي، يمنعهم صدق انخراطهم في المواجهة من نقد البرنامج، فيستسهلون التراجع من ساحة الهزيمة السياسية إلى عرين قوتهم، أي إلى منظومة القيم الأخلاقية التي، بمعاييرها وحدها، تغدو المعادلة بسيطة وواضحة : الصراع هو بين الحق والباطل، ولا يمكن، طبعا، أن ينتصر الباطل، لأن الباطل كان زهوقا فلهذا لا يصدقون أن ما حصل هو هزيمة، وإذا انتصر الباطل، لا سمح الله فليس بفضل قوته بل بسبب خيانة المدافعين عن الحق. ما يغيب عن هذه المعادلة البسيطة أمر بسيط أيضا، وهو أن الصراع بين طرفين، حتى لو أطلقنا عليهما تسمية الحق والباطل، أو أية تسمية أخرى، هو قبل أي شيء، صراع بين موازين قوى، وأن موازين القوى التي توفرها برامج المواجهة العربية كانت على الدوام في غير صالح الحق، بل يستحيل على هذه البرامج أن توفر من الموازين إلا ما هو ضد صالحها، حتى في ظل صدق النوايا ونبل الأخلاق . بهذا المعنى فحسب تبدو هذه البرامج وكأنها تعمل مع أصحابها لصالح الأعداء.

الدرس الثالث هو أن ما حصل ليس هزيمة للنظام العراقي وحده، بل لكل المنظومة السياسية الفكرية التي نما النظام العربي في ظلها، والتي خشيت على مصيرها لأنها اعتقدت عن حق أن ما يهدد به العراق تهدد به الأمة، غير أن القيمين على هذه المنظومة فهموا العبرة جيدا، ثم لقنوا جماهير الأمة الدرس بالمقلوب، فشحنوا النفوس واستنفروا الهمم ودفعوا المتطوعين إلى المواجهة، من التظاهر حتى العمليات الاستشهادية، مشددين على حجم المواجهة، لا على السبل المتبعة فيها، مغفلين أن الشعب العراقي لم يكن ينقصه لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا بطولات، بل كان يفتقر إلى من يوظف الطاقات الهائلة التي يختزنها، ويعد سبلا للمواجهة تبدأ بالوحدة الوطنية، ووحدة القضية، وهما ما أوكل النظام السياسي لنفسه أمر تدميرهما سلفا، وكأنه بذلك جهز نفسه للهزيمة لا للمواجهة.

القيّمون على الأمر لا يريدون أن يعترفوا بذلك لا أمام أنفسهم ولا أمام جماهيرهم، ولذلك كانوا، بمن فيهم خصوم صدام والمرتبكون إزاء مواقفه وسياساته، أول من استعجل التظاهر دفاعا عن شعب العراق، وأول من تفاجأ بسقوط نظامه. فكيف توهم المتوهمون أن بإمكان الشعب العراقي أن يصمد أو أن يقاوم، وهو مطعون في وحدته الوطنية، لا من قبل العدو الإمبريالي، بل من قبل قيادته بالذات، ومن أين له أن يشارك في المواجهة، أو أن يعد نفسه جزءا منها، والقيادة حكر على حفنة من تكريتيين وقادة أجهزة قمعية؟ بل كيف توهموا أن بإمكانهم التضامن مع الشعب العراقي والحفنة الضيقة هذه قادرة، لا على تهديد الوحدة الوطنية والوحدات الوطنية والقومية فحسب، بل على مصادرة كل تضامن صادق مع الشعب العراقي، وتوظيفه في صالح برنامج مآله المزيد من التفتيت الوطني والقومي.

خير تعبير عن حفلات التضامن (بالفاء) هذه بيان صدر عن أحزاب شيوعية عربية لم يكن الشيوعي العراقي من بينها. كان ينقص البيان توجيه تهمة التخاذل للشيوعيين العراقيين، الذين لم يكفهم شهادة حسن سلوك أنهم لم يشاركوا في اجتماعات المعارضة تحت الراية الأميركية. تعليم العراقيين كيفية انتمائهم الوطني إلى وطنهم العراق، يشبه إلى حد بعيد، تعليم الكويتيين كيفية انتمائهم إلى العروبة.

الدرس الرابع ضرورة الإقلاع عن استخدام نظرية المؤامرة في تفسير مصائب الأمة ومظاهر تخلفها. لا الجوع ولا الأمية ولا الفساد ولا الاستبداد على سبيل المثال نتائج لمؤامرات تحاك ضد الأمة العربية في أروقة معادية. غير أن العقل السياسي العربي اعتاد، منذ غزوة نابليون لمصر عام 1798، على تحميل الاستعمار مغبة كل بلية تصيب الأمة، ثم لم يتردد في تكريس هذا الاعتقاد، غداة اتفاقات سايكس بيكو وإقامة الكيانات العربية، في صورتها الراهنة، ثم كرسه مرة ثانية غداة النكبة، حتى غدت كل مفسدة داخلية مدعاة لدق النفير ضد الإمبريالية والاستعمار، تحت شعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

ما من عاقل ولا مجنون ينفي الدور الذي لعبه الاستعمار في بلادنا وفي سائر بلدان العالم، لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير الصراع وتحليل آلياته على الصعيد الدولي، كما لا يكفي تسجيل موقف عدائي من هذا الاستعمار اللعين، ولا تكرار الموقف كلما حلت نكبة أو منينا بهزيمة. الاستعمار تعبير عن آليات الحضارة الرأسمالية القائمة على التوسع والسيطرة، لتأمين حاجتها من المواد الخام وفتح أسواق لتصريف منتجاتها. ولا يتورع رأس المال عن إبادة كل ما يعترض سبيل تراكمه، حتى لو كان شعبا، وليس أمام مصالحه محرمات حتى لو كان خصومه من لحمه ودمه. وما الحروب العالمية بين الدول الرأسمالية الكبرى إلا التعبير البليغ عن وحشية الأساليب التي يمكن أن يلجأ إليها في إطار التنافس على السيطرة، ولا يخفف من سطوع هذه الحقيقة حجم التلطيف الدبلوماسي الذي فرضته البشرية على آليات الصراع، بعد الحرب العالمية الثانية.

من طبيعة الاستعمار إذن أن يتصرف، معنا ومع سوانا، كما يتصرف. وخير لنا أن نضيء شمعة من أن نلعن الظلام. يعني أن علينا ألا نصاب بالدهشة والمفاجأة كلما ابتكر العالم الرأسمالي المتقدم، بقيادة الولايات المتحدة هذه المرة، أسلوبا جديدا للسيطرة على ثروات الكرة الأرضية، تماما كما علينا ألا نصاب بالانبهار من موقف متعاطف معنا تبديه دولة كبرى، لأن ذلك ليس إلا من تجليات التنافس الرأسمالي، وإن كان علينا ألا نهمله، بل أن نستفيد منه. لا يعني ذلك أن نستسلم لقدر القوى الكبرى، فنستعيذ بالله من شيطان هذا الزمن، بل أن نضع خطة للمواجهة، تتجاوز الخطاب الشوفيني الذي يشحن النفوس ضد الغرب الاستعماري لأنه غرب أو لأنه مسيحي أو لأنه ملحد أو لأنه مادي، وهي كلها ليست الصفة الجوهرية للاستعمار.

صار من باب اليقين، إذن، أن الاستعمار عائق أساسي أمام تقدمنا، وبات من اللازم معالجة هذا العائق بغير الأسلوب الذي اعتمدته حركة التحرر العربية، بعد أن صار من اليقين أيضا أن هذا الأسلوب المتبع على امتداد قرن من الزمن يعزز مواقع الاستعمار، بل هو يستعيدها إن رحلت، على غرار ما فعله صدام.

ومن باب اليقين أيضا أن الاستعمار يستند في نجاحاته ضدنا على عوائق بنيوية نصنعها نحن بأيدينا ونمتنع عن الاعتراف بمسؤوليتنا عن صنعها. إن هزيمة العراق مدعاة لعملية نقد ذاتي جريئة وجذرية، من أدنى درجاتها استقالة من تبقى من قيادة حركة التحرر إفساحا في المجال لقوى جديدة تتولى صوغ برنامج جديد للمواجهة مع العدو الخارجي.

باب الدخول إلى النقد الذاتي هو الديمقراطية، غير أن الدخول في باب الشجاعة يحتاج إلى أخلاق ثورية عند بقايا القيادة، وإلى إقدام لدى البدائل، وإلى جديد في البرامج. الديمقراطية في الداخل هي السبيل إلى تأمين متطلبات المواجهة، حتى بالعنف الثوري، مع العدو الخارجي.

الدرس الخامس وهو أصعب الدروس، أولا لأنه متعلق بالدروس السابقة كلها، ثانيا لأنه متعلق بالبرنامج البديل.

إن فشل البرامج والقيادات يطرح على بساط البحث قضية التحرر الوطني من الأساس. فقد نهضت فكرة التحرر الوطني مع بدايات القرن الماضي، وتعززت مع قيام الثورة الاشتراكية ومنظومة البلدان المتمحورة حول الاتحاد السوفيتي، وارتبطت آلياتها بالانقلابات والثورات والأنظمة الشعبوية والكفاح المسلح ونظام الحزب الواحد، الخ. ولا بد لها من أن تأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:

 1- الوحدة القومية هي اليوم ضرورة أكثر من أي وقت مضى، غير أن السبيل إلى تحقيقها يتطلب، بالدرجة الأولى، صيانة الوحدة القطرية في كل بلد عربي، ولم تعد سايكس بيكو تمثل الخطر المحدق، بل باتت الحروب الأهلية والتقسيمات الفدرالية هي التي تهدد العالم العربي، وهي السيف الذي يرفعه الاستعمار الرأسمالي فوق رؤوس الأمة، من لبنان إلى الجزائر والعراق والسودان واليمن، وصولا إلى ما تلوح به الإمبريالية ضد السعودية.

2- لم يعد الخلط جائزا بين العروبة والإسلام. فالعروبة، بما هي رباط تاريخي يجمع شتات شعوب منتشرة من المحيط إلى الخليج، ضرورة لمواجهة المخاطر الخارجية، والإسلام السياسي المناهض للاستعمار والمكافح في سبيل التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية ضرورة، هو أيضا لتعزيز جبهة المواجهة. لكن العروبة والإسلام السياسي شيء، والاستنفار الديني شيء آخر، والرأسمالية الاستعمارية لا تميز بين إسلام ومسيحية، والمستهدفون من مخاطرها شعوب تنتمي إلى كل الأديان والطوائف والمذاهب والإتنيات. وقد نكون بحاجة إلى استعادة النهج الناصري في توظيف كل الأطر المتاحة لتحصين الجبهة المناهضة للإمبريالية.

3- سقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن حدثا ثانويا في تاريخ المواجهة، كما يحلو للبعض أن يتعامل معه، ولا هو سقوط للتجربة الشيوعية وحدها. فالقوى التي كانت في صلب المواجهة، وتلك التي تريد اليوم أن تنتسب إليها، معنية بقراءة درس السقوط جيدا، لأن قوى التحرر شكلت نسخا طبق الأصل غالبا، ومشوهة في غالب الأحيان، عن النموذج السوفياتي والشيوعي، يطال ذلك الشيوعيين العرب مثلما يطال القوميين والإسلام السياسي على حد سواء. وقد أدت قراءة الدرس بالمقلوب، كما هي العادة العربية، إلى الاعتقاد بأن فشل التجربة الشيوعية هو الدليل القاطع على صحة النهج الذي اعتمدته قوى التحرر الأخرى، ذلك أن الشيوعية كانت في نظرهم عدوا ومنافسا على زعامة التحرر، ومن المجحف اليوم بحق ستالين تشبيهه بصدام وإن توفرت أوجه شبه بين الستالينية والاستبداد العربي، فالاستبداد واحد أيا يكن صانعه ومبدع أساليبه.

4- آليات المواجهة السابقة أفسحت بالمجال، للجميع من غير استثناء، في أن يكونوا ضد الاستعمار، دون أن يكونوا ضد السياسة الأميركية، أو ضد الأساس الاقتصادي الذي قامت عليه العدوانية الأميركية، مما أوقعهم في مغبة الخلط بين تكتيك يراعي موازين القوى واستراتيجية يلتبس فيها أمر التمييز بين الصديق والعدو.